في ينايرعام 1977 قررت الحكومة المصرية رفع أسعار بعض السلع الغذائية ومن بينها الخبز، فخرج المصريون في تظاهرة غضب كبيرة على مدى يومين امتدت من القاهرة حتى اسوان (جنوب مصر) حيث كان الرئيس الراحل أنور السادات يقضي إجازته الشتوية،ورداً على التظاهرات قررت السلطات فرض حظر التجول لأول مرة منذ عام 1952، لكن أحداً ما كان ليلتزم بحظر التجول الذي تحفظت بعض قيادات الشرطة والجيش على استخدام القوة ضد من ينتهكونه، لولا تدخل الراحل عبد المنعم الصاوي وزير الإعلام المصري آنذاك، الذي قرر بث مسرحية مدرسة المشاغبين تليفزيونيا ليتسمر المصريون أمام الشاشات لمتابعة نجومهم المفضلين عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وأحمد زكي وسهير البابلي، على مدى ثلاث ساعات، كانت الحكومة المصرية تدرس خلالها سبل التراجع عن قراراتها برفع الأسعار، فيما كان الرئيس السادات الذي وصف الأحداث بأنها “ انتفاضة حرامية” يقيل وزير داخليته اللواء سيد فهمى الذي رفض استخدام القوة المفرطة لتفريق المتظاهرين. وفيما يبدو فقد كانت نتائج استخدام عادل إمام ورفاقه كأداة لتفعيل قرار حظر التجول وحمل المصريين الغاضبين على عدم مغادرة منازلهم، مشجعة الى الحد الذي أتاح ظهور تعبير السلطة الرابعة لأول مرة على لسان الرئيس أنور السادات ذاته، الذي يبدو وكأنه أعاد اكتشاف إمكانية استخدام الإعلام في إدارة معاركه والتأثير الحاسم- أحياناً- على نتائجها. إعادة اكتشاف الإعلام كأداة ترويض أو تحريض، دشنت عصرا جديدا واصل الإعلام فيه لعب دور تجاوز حدود الترويض والتحريض الى صناعة الحدث، فلم يكتف بعض الإعلاميين بتحقيق سبق تغطية حدث ما، لكنهم راحوا يستبقون الحدث بالتأثير في اتجاهاته أو حتى بصناعته هو ذاته، ثم تغطيته اثناء ذلك. والتر كرونكايت مذيع قناة أيه بي سي الأمريكية الشهير ، وزميلته الأمريكية بربارة والترز التي اشتهرت في السبيعنيات بأنها مذيعة المليون دولار، (حين كان المليون رقما يصعب إدراكه) ساهما معا في صناعة واحد من أهم أحداث القرن العشرين في منطقتنا، فبعد إعلان السادات عن استعداده للذهاب الى آخر العالم من أجل السلام بل والذهاب الى الكنيست ذاته، سارع كرونكايت الى طلب اجابة السادات عن السؤال : لو تلقيت دعوة من بيجين رئيس الحكومة الاسرائيلية لزيارة القدس هل تقبلها ؟! أجاب السادات على الفور ..نعم.. بعدها توجهت بربارة والترز بسؤال الى مناحيم بيجين: ..وهل أنت على استعداد لدعوة الرئيس السادات لزيارة القدس فأجابها :بالتأكيد..الى هنا صنع كرونكايت وبربارة والترز نصف الحدث ثم راحا معا من على متن طائرة الرئاسة المصرية يكملان متابعة النصف الآخر. أمريكا هى المدرسة التي يتعلم منها العالم فنون التلفزة، وقد فعل كرونكايت و والترز قبل عصر الفضائيات مالا تستطيع فضائياتنا العربية مجتمعة أن تفعله الآن، رغم التطور الهائل فيما تحت ايديها من تقنيات اتصال متطورة ، فهى تكتفي أحيانا بدور “البزازة” المهدئة كما فعلت مدرسة المشاغبين لتهدئة الشعب الغاضب من ارتفاع الأسعار، وفي أحيان أخرى تفضل دور الفتى الشرير فتفتش عن اثارة الجدل بغض النظر عن موضوعه أو فحواه أو جدواه، فتتبع السقطات والزلات والهنات، وتجعل من خناقات النجوم مادتها اليومية دون اهتمام كبير لا بالتنوير ولا بالتغيير ولا بالتعليم. الإمكانات التقنية الهائلة التي أتاحتها ثورة وسائل الاتصال ضاعفت قدرة الإعلام على التأثير والتغيير والتنوير، بل مضت به في بعض الأحيان الى مناطق التسلط والاستبداد بالعقول والقلوب معاً، لكن التعامل مع الإعلام باعتباره سلطة رابعة كما وصفه الرئيس السادات، يقتضي ما هو أبعد من ذلك بكثير، فالسلطات الثلاث الأخرى التنفيذية والتشريعية والقضائية، لدى كل منها قواعد واصول بعضها صاغته الدساتير وبعضها الآخر أرسته التقاليد، وصانه الرأى العام. أما سلطة الإعلام فما تزال حتى اليوم - وخاصة في الدول الأقل تطوراً- بلا دستور حقيقي ملزم، لا لصناع الإعلام ولا لمتلقيه ولا للمتعاملين معه أو المتضررين منه. فالموضوع مازال في دائرة الاجتهادات التي لا يمكن اعفاؤها من تأثيرات السياسة. حتى يكون الإعلام سلطة رابعة بحق، لابد من وجود متلق نشط تستهدفه الرسالة الإعلامية ويتفاعل معها، هذا المتلقي النشط ليس فرداً ولا مؤسسة، ولا سلطة، إنه فوق كل هؤلاء إسمه في بطاقة الهوية : الرأي العام.. فهل لدينا ما يمكن وصفه بالرأي العام؟!.. نعم لدينا ولكن أي رأي؟ وأي عام؟! وجود الرأي العام رهن بأن تكون المعلومة الدقيقة عند أطراف أصابعه، ووجود المعلومة الدقيقة رهن بحرية تدفق المعلومات، وتلك الأخيرة رهن بإيمان النظام السياسي أو تسليمه بحق المواطن في المعرفة، فلا يجوز خلط الحقائق أوطمس بعضها أو تغييره، والتسليم بحق المعرفة يقتضي الإقرار بحق البوح للمواطن وواجب الانصات من المسؤول، وكلها معادلة لا تستقيم عناصرها بالنوايا الحسنة وحدها ولا بمقدار تفهم المسؤول وتقديره الشخصي، وإنما تستقيم بالاستمرارية التي تقتضي بدورها عملاً مؤسساتياً، يضمن تواصل المنهج مهما تبدل الاشخاص القائمون عليه. هل إعلامنا بهذا المعنى السابق مؤهل لأن يكون سلطة رابعة بحق؟!.. لا أظن ذلك، ولا أستطيع تحميل الاعلام مسؤولية عجزه عن الاضطلاع بتلك المسؤولية الثقيلة، لأنه ببساطة جزء لا يتجزأ من بيئته التي لم تستوعب بعد قيم البوح وحق المعرفة وحرية تداول المعلومات .. ولهذا والى أن تستوعب البيئة كل هذا، لا مناص من احتمال مراهقات الإعلام والتجاوز عن بعض نزواته.