مكث الفقهاء زمناً طويلاً وهم يتداولون ما اصطلح عليه في الفقه الإسلامي “دار حرب ودار إسلام” كصورة من صور العلاقة بين المسلمين وغيرهم إلا أن أحداث العنف من قبل أطراف إسلامية تجاه دولٍ غربية وعربية، ونزعات العنصرية في دول غربية ضد جاليات أقامت بينهم عقوداً من الزمن أحالت علماء ومفكرين إلى مراجعات لبعض الإرث الفقهي القديم في العلاقة الجدلية بين المسلمين وغيرهم؛ ومن ذلك انطلق "مؤتمر ماردين" الذي عقد في مدينة ماردين بتركيا، تلك المدينة التي تتميز بتعدد الأديان مع تعايش أهلها في سلام ووئام. المؤتمر الذي نظمه المركز العالمي للترشيد والتجديد برئاسة العلامة عبدالله بن بيه-نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- ناقش فتوى ابن تيمية لأهل ماردين وملابساتها وظروفها التاريخية، وسبل تجديدها في ضوء معطيات العصر الجديدة، كما أطلق المؤتمر مصطلح "فضاء سلام" بدلاً من مصطلح "دار حرب ودار إسلام" المعروف في الأدبيات الفقهية. ما الخلفية الفقهية التي استند عليها المؤتمر لإطلاق هذا المصطلح؟ وما مدى تأثير مثل هذه المؤتمرات على الفكر الإسلامي المتشدد؟ وما مصير مفهوم الولاء والبراء في ظل تبدل مفاهيم إسلامية أخرى؟ (الرسالة) استطلعت آراء بعض النخب الفكرية والعلمية حول المؤتمر ونتائجه... خطأ طباعي وفي البدء سألنا العلامة الشيخ عبدالله بن بيه –الرئيس التنفيذي للمركز العالمي للترشيد والتجديد الذي نظم المؤتمر- سألناه عن ما قال إنه خطأ مطبعي في فتوى ابن تيمية-التي كثيراً ما اعتمدت عليها جماعات العنف- انتشر في أغلب كتبه التي تنص على أنه: "ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه" بينما يرى ابن بيه أن الصحيح هو: "ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، فقال: "التصحيح ظهر لنا هناك، والكلام مختل ولا يمكن أن يكون بهذا الشكل، لكن هذا التنبيه احتجنا بعده لمراجعة بعض الأصول مثل (الآداب الشرعية والمنح المرعية) لابن مفلح وهو من تلامذة شيخ الإسلام ومن أكبر علماء الحنابلة في عصره، ووجدنا أنه أثبت ما كنا قدرناه وظنناه، وبالتالي فكل أرض يتعامل فيها بما يسمى (تنقيح المناط في الأحوال والأشخاص في الحال والمآل). تنقيح وتدقيق وعن حاجة تراث ابن تيمية إلى مزيد من التنقيح والتدقيق والإبراز بناءً على مثل هذه الفتاوى المنتشرة يقول ابن بيه: "بالتأكيد تراث ابن تيمية كتراث غيره من الأئمة يحتاج إلى تصحيح وتنقيح وتحقيق وتدقيق، وقد أشرنا إلى ذلك في البيان الختامي للمؤتمر، وتذاكرنا مع بعض الإخوة المتخصصين في تراث ابن تيمية الذين حققوا جزءاً منه". وأضاف العلامة ابن بيه "طلبت هذه الفتوى من مكتبة الظاهرية بدمشق، طلبت المخطوط منها حتى أطلع عليه فكما تفضلتم كثير من التراث والأحكام تحتاج إلى كثير من البحث والتصحيح، وأن يدرس بجملته لا مجتزءأً، وهذا يصدق على تراث الأئمة الآخرين الذين قد يأخذ البعض شيئاً منه لا يتماشى مع كلياته، ولا يتماشى مع نصوص أخرى، وهذا العمل نحن نبهنا إليه، وأعتقد أن التنبيه فيه كان قوياً، وسنلحق بذلك ما يتعلق بتصحيح الفتوى" ملتبساً وغير واضح وعن سؤال (الرسالة) حول إشكالية لم يتطرق إليها المؤتمر وتتخذها جماعات العنف ذريعة لتبرير أفعالهم وهي إشكالية الحكام المتعاونين مع المحتلين لأراضٍ إسلامية، وعن مدى احتياج هذه الإشكالية إلى مزيد من البحث حتى تتضح الصورة ويتخذ حيالها الموقف الصحيح أجاب العلامة ابن بيه: " نعم ما تفضلت به قد يكون صحيحاً والمبدأ كما يقول ابن تيمية أن حكام الجور لا يقام عليهم؛ لأن ذلك مذهب الخوارج وهو أحد المذاهب الخمسة لهم. والموضوع قد يكون ملتبساً وغير واضح نعم؛ لأنه ما مدى تعاون هذه الفئة؟ وهل هي مكرهة أم مختارة؟ وهل هم يصانعون المحتل أم لا؟ هذه التفاصيل وغيرها لها اعتبارها لأنه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "يعامل الخارج على الشرع بما يستحقه" –كما في أصل الفتوى- ونحن حاولنا تقديم حكم الشرع فيما يتعلق بحكم الدور بالذات وليس فيما يتعلق بالإنسان، فالكلام في المكان وليس في الإنسان، وفي حكم الدار وليس في الحكم على الأبرار أو الأشرار". وأضاف: "الأمر يحتاج إلى تفصيل؛ هل العلاقة بين الحكومات والمحتل علاقة طارئة؟ وهل هي بعد الاحتلال أم قبل الاحتلال؟ وهل كانت هناك حكومات قبل الاحتلال وحكومات بعد الاحتلال؟ وهل نصبها الاحتلال؟ وهل تقيم علاقات أو تقيم نوعاً من المعاهدات؟ فالأمر يحتاج إلى تفصيل خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمسألة تكفير الناس؛ فالمتعاون لا يكون كافراً إلا إذا تعلق الأمر بالعقيدة كما قلنا في البيان، والولاء في هذا الأمر لايحتج به في التكفير، والمسألة تحتاج إلى أن نضع جملة من الفصول والتفصيلات إضافة ً إلى ما يمكن أن يترتب على ذلك من المفاسد حتى نحكم على كل قضية بذاتها، وأن لا نحكم على أناس قد يكون لهم في الأمر مندوحة، أو يكون الأمر فيه شبهة. ليس شيئا ثابتا وعن المصطلح الجديد الذي ابتكره المؤتمر (فضاء سلام) بدلاً من المصطلح المعروف في التراث الإسلامي (دار إسلام ودار حرب) يقول خبير المقاصد الشرعية بمجمع الفقه الإسلامي -وهو أحد المشاركين في المؤتمر- د.أحمد الريسوني: "نحن في المؤتمر انطلقنا من فتوى ابن تيمية في ماردين حين سئل هل هي دار سلام أم دار حرب قال: "هي نوع ثالث مركب من المعنيين"، هذه العبارة هي بمثابة ضوء يشير إلى أن تصنيف العالم والدول والأقطار ليس شيئاً ثابتاً وإنما بالنظر إلى حاله ووضعه ووضع الإسلام؛ وبناءً على هذه الفتوى نستطيع أن ننظر في أحوال عالمنا فنصفها هل هي دار إسلام أم دار حرب أم مركبة كما قال ابن تيمية؟ وما هي الدار المركبة؟ وهذا هو الفتح الجديد الذي فتحه لنا ابن تيمية بذكائه. ويضيف الريسوني شارحاً المصطلح وخلفية استحداثه: "العالم اليوم على الأقل من الناحية التنظيمية والقانونية والمبدئية أصبح "فضاء سلام" لأن جميع الدول أصبحت تنادي بالسلام وباتفاقيات سلام ثنائية وإقليمية ودولية، وحل المشاكل بالسلام، وأصبح هذا هو الأساس والمبدأ، والخروقات هي الاستثناء والخروج عن المبدأ، ويكون مداناً من الناحية النظرية، وطبعاً هناك خروقات جسيمة هي في الأغلب حالات احتلال". الولاء والبراء وعن مفاهيم ذات صلة مثل (الولاء والبراء) ومدى احتياجها كذلك إلى إعادة نظر يجيب خبير المقاصد الشرعية بأن "إعادة النظر قد تكون عند بعض الأطراف والشباب أم الأمر من أصله فواضح؛ إذ إن الولاء والبراء أصناف ودرجات فليس كل براء ينبني عليه تكفير؛ فالولاء الذي ينبني عليه تكفير هو ما كان ولاءً للكفر والكافرين بصفتهم الدينية كما قال تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، والإنسان إذا انضم قلبياً وعاطفياً إلى فئة فهو منها أياً كان الاسم الذي يحمله في دينه أو مذهبه، لكن الذي يوالي لأسباب دنيوية ومصلحية وتوافقية حتى لو كان عن ضعف أو طمع كل هذه الأمور لا ينبني عليها تكفير، فضلاً عن أن أنواعاً من الولاء والمودة مقبولة إذا كانت لمصالح دنيوية وتعايش وتفاهم دون عدوان. ويؤكد أنه ليس كل ولاء وبراء يرتبط به الكفر والتكفير، وهذا أيضاً من جملة ما خلص إليه المؤتمر. وعن تأثير مثل هذه الأطروحات وما يمكن أن تؤدي إليه من تمييع المفاصلة بين المسلم والكافر؟ يؤكد الريسوني: "المفاصلة واضحة؛ ومع ذلك سيبقى المسلم مسلماً واليهودي يهودياً والنصراني نصرانياً، ونحن في نظرهم كفار وهم في نظرنا كفار؛ فهذا شيء وضمان السلم والأمان في المجتمعات قدر المستطاع، وتبادل المنافع والمصالح هذا شيء آخر". تأثير أمثال هذه المؤتمرات وعن مدى تأثير مثل هذه المؤتمرات على أصحاب هذه القناعات إذا كانوا هم في معزل عنها؟ يقول: "الذي نؤمن به أمران: الأول أن نؤدي واجبنا وأمانتنا العلمية، الأمر الثاني: أن الحجة الصحيحة والإرادة الصادقة في أي مكان لا بد أن تؤتي ثمارها ولو بعد حين؛ لأننا على يقين أننا نعيش والعالم فتنة فكرية وسياسية، وفتنة مظالم، هذا كله يحتاج إلى صبر، والكلمة الصادقة تتكرر اليوم وغداً وبلا شك أنها ستجد آذاناً صاغية إن لم يكن عند كل الناس فعند مجموعة كبيرة منهم وهو في نهاية المطاف إبراء للذمة". ومن جانبه أكد د.حسن سفر -أستاذ نظم الحكم والقضاء والعلاقات الدولية بجامعة الملك عبدالعزيز- أن الشريعة الإسلامية جاءت بخطاب عالمي لرسالتها انطلاقاً من قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". والأصل في العلاقات بين المسلمين و غيرهم أن تقوم على السلم والسلام انطلاقاً من كون الإسلام رسالة إنسانية عالمية. ليس منزل..!! أما تقسيم البلاد إلى "دار حرب ودار إسلام" فيشير سفر إلى أن هذا التقسيم هو بالنظر إلى واقع المسلمين في حقبة زمنية معينة وليس تقسيم منزل، وأن دولة الإسلام هي في الأصل منفتحة على كل المذاهب والأيديولوجيات والملل والنحل. وعن مصطلح "فضاء سلام" الذي أطلقه المؤتمرون في ماردين ألمح إلى أنه يحتاج إلى مزيد من التفصيل وطالب بالوصول إلى مايشبه مواثيق سلام إسلامية شاملة وعالمية. وفي سياق متصل يؤكد د.هاني عبدالشكور –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة الملك عبدالعزيز- أن "التقسيمات التي وضعها الفقهاء من تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام هي اجتهادات منهم مناسبة لأحوالهم التي كانوا يعيشون فيها، وقد اختلف الوضع الآن بواقع ليس له سابق مما يقتضي من فقهاء العصر أن يغيروا هذا الاجتهاد الفقهي القديم باجتهاد يلائم العصر وينسجم ويتوافق مع النصوص الشرعية ولا يتعارض معها ويحقق مقاصد الشريعة". ويذكر عبدالشكور أن ابن تيمية كان نموذجاً للفقيه المسلم الذي يعيش عصره ويفتى أهل زمانه بما بناسبه؛ لأن الشريعة جاءت مناسبة لكل زمان ومكان، والفتوى تتغير زماناً ومكاناً وحالاً ومآلاً. وفي الحديث عن انتهاكات اتفاقيات ومواثيق السلام-التي استنِد مصطلح (فضاء سلام) عليها بالإضافة لنصوص ومقاصد الشريعة- خاصة تلك الانتهاكات الواقعة في البلاد الإسلامية وما يمكن أن تولده من انطباعات بأن الدول الكبرى لاتلتزم بهذه الاتفاقيات مما يعطي معتنقي جماعات العنف ذريعة لأعمالهم يوضح د.هاني أن "القول بأن العالم الآن الذي تحكمه معاهدات سلام ومصالح مشتركة أصبح فضاء سلام لايتعارض مع ماقررته الشريعة وأقرته المواثيق الدولية من حق الدول المعتدى عليها في الدفاع عن نفسها ورد العدوان، وكون بعض الدول لاتلتزم بهذه الاتفاقيات لايتعارض مع ما اصطلح عليه، ولايتعارض في الوقت نفسه مع الشريعة الإسلامية التي أقرت التعايش السلمي بين مختلف الأديان والطوائف بما يحقق العدل والخير للبشرية جميعاً". أحكام واضحة كما أوضح أن "أحكام الشريعة واضحة جداً في هذا الباب حينما أمرت بالوفاء بالعهود والمواثيق ونبذها لمن خالفها إن ظهرت منهم بوادر خيانة مع جواز الاستمرار فيها لمن لم تظهر منهم بوادر خيانة أو نبذ للعهود كما قال تعالى: "وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق"، ومعاهدة المدينة التي جمعت بين جميع أطياف البلد الواحد ضمن أطر ومصالح مشتركة يتحقق فيها العدل، وتوفى فيها الحقوق واضحة في هذا الشأن، وكذلك إقرار النبي لحلف الفضول وأمره للصحابة بالهجرة إلى الحبشة والإقامة في حماية دولة غير مسلمة لكنها عادلة وقوله للصحابي فديك رضي الله عنه حينما استشاره في الهجرة: "يافديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض قومك حيث شئت". وعن تأثير مثل هذه المؤتمرات في الواقع يؤكد أستاذ الفقه وأصوله بأن انعقاد المؤتمر وخروجه بهذه النتائج والتوصيات وانتشارها بين الناس وطلبة العلم خصوصاً سيخلق منها قضية عامة لابد أن تصل إلى المعنيين إن عاجلاً أم آجلاً ويدلل على ذلك بانتشار أخبار المؤتمر ونتائجه وتوصياته على الشبكة العنكبوتية (الانترنت). تحصين للشباب أما عن تأثير مثل هذه المؤتمرات بشكل عام على أصحاب الفكر المتطرف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فيجيب مدير عام التوجيه والتوعية بوزارة الداخلية د.علي النفيسة بأن المؤتمرات هي بالدرجة الأولى تحصين للناشئة -الذين هم أرض خصبة لمثل هذه الأفكار- حتى لا يقعوا فيها، وتوعية للناس ليتكاتفوا مع الجهود المبذولة أمنياً وفكرياً، وتعرية هذا الفكر المنحرف وبيان أنه لا يمت للإسلام بصلة، وتبرئة الإسلام من أوصاف الإرهاب والعدوان وعدم التسامح؛ هذه الأهداف إذا تحققت في المؤتمرات فسيجد أصحاب الفكر المتطرف صعوبة في التحريض والتجنيد. كما أشار النفيسة إلى جانب آخر من تأثير مثل هذه المؤتمرات عن طريق "بيان الحق لأن صاحب الفكر المتشدد قد يظن أنه على حق لكنه عندما يسمع عن طريق وسائل الإعلام أو من خلال اطلاعه بشكل أو بآخر على مثل هذه المؤتمرات ونتائجها حتى لو من باب الرد عليها فلربما يجد الحقيقة دامغة وواضحة خاصة إذا كان فعلاً يبحث عن الحق". وفي معرض حديثه عن حاجة جماعات العنف إلى نصوص دينية وفتاوى حتى تبرر عنفها أم أن لها أهدافاً أخرى يقول مدير عام التوجيه والتوعية: "هم بالدرجة الأولى يعتمدون على نصوص لكن هذه النصوص مبتورة؛ لأن النصوص بشكلها وسياقها الصحيح لا يمكن أن تخدمهم؛ لذا هم يأخذون النصوص ويفسرونها بطريقة معوجة، أو ينزلونها على وقائع لا تنطبق عليها، وهذا ديدنهم".