في أواخر العام 1959م تفتّقت قريحة الرائد القصصي السوداني الكبير عثمان علي نور صاحب أول مجموعة قصصية سودانية مطبوعة “غادة القرية” الصادرة سنة 1954م عن فكرة إصدار أول مجلة متخصصة للقصة القصيرة في العالم العربي، وفي يناير 1960 صدر العدد الأول من مجلة القصة عن مطبعة “الرأي العام”، وتصدّرت العدد كلمة عثمان نور الرصينة التي سنوردها كاملة في مقال قادم للكشف عن مدي استنارتها وحداثتها. كانت المجلة الوليدة فتحًا في تاريخ السرد في السودان: أشعلت نار القصة القصيرة في بقاع نائية من السودان، فتحت بابها واسعًا لاحتضان كافة التيارات الأدبية، أسست للنقد السردي الرصين على يد نقّاد أمثال الدكتور إحسان عباس، والدكتور عبدالمجيد عابدين، والدكتور عزالدين الأمين، والدكتور محمد زغلول سلام..، وعرَّفت بأعلام القصة الغربية شرقًا وغربًا، ورعت بدأب وحزم المواهب الناشئة في كتابة القصة، والتف حولها رهط كبير من السرديين والنقّاد. لكن سرعان ما تآمرت عوامل عديدة لإطفاء الشعلة الوليدة في منتصف عامها الثاني 1961م، لعل من أبرز هذه العوامل: ضعف التمويل، وقصر نظر النظام الحاكم حينها الذي قال له على لسان وزير استعلاماته طلعت فريد “نحن ما مستعدين ندي المجلة مليم.. غلبتك وقّفها”، وكان موقفه يفصح بوضوح عن مواقف أنظمة عديدة تتحسّس سلاحها عندما يتعلّق الأمر بمسألة الثقافة، وتتحسّس موضع أقدامها أيضًا خوفًا من ممّا يمكن أن يمارسه الوعي الثقافي في فتح دروب المستقبل الموصدة.. وفي النهاية: كان مصير المجلة هو مصير الكثير من المشاريع الثقافية النيرة التي تتضافر أيادٍ عديدة لختقها في أمة تحترف “اغتيال الخيول النبيلة” بتعبير الشاعر نزار قباني في سياق مشابه. وقد وصف عثمان علي نور شبح إيقاف المجلات الثقافية أو توقفها في حوار أجريته معه برفقة الشاعر محجوب كبلو ونشر بمجلة “كتابات سودانية” بأنه: “كارثة ثقافية لا بد من تداركها”، وظل يحلم -رحمه الله- حتى رحيله قبل أعوام قليلة بإعادة إصدار المجلة. بعد أكثر من نصف قرن، تحديدًا بعد أكثر من ثمانية وخمسين عامًا بالتمام والكمال، تصدر صحيفة “القصة السودانية” برعاية اليونسكو ونادي القصة السوداني لتسد الفراغ الذي خلفه وأد مجلة القصة. تصدر وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ عهد الستينيات البعيد، فقد بزغت عشرات الأسماء القصصية، واندلعت نار حساسية جديدة ومختلفة، وانفتحت الكتابة على فتوحات السرد شرقًا وغربًا من اليابان والصين وحتى أمريكا اللاتينية، ودخل النص السردي في حوار حاد مع الخطاب النقدي الذي بدا وكأنه في حاجة إلى شحذ أدواته باستمرار ليتماهي مع كشوفات السرد الجديدة، بدلاً عن الحديث المتكرر عن الحبكة وبناء الشخصيات والزمان والمكان.. صدور صحيفة متخصصة في القصة القصيرة في السودان في أكتوبر 2009 بقدر ما هو مبهج، إلا أنه يلقي بأعباء ثقيلة على القائمين بأمرها (نادي القصة السوداني ورهط من النقاد والقاصين): إذ من يستطيع أن يلملم شظايا هذه السرودات التي اندلعت في كل مكان، وكيف يمكن أن تكون الصحيفة منبرًا حقيقيًّا لهذه الأجيال التي توالت على كتابة القصة منذ أوائل الستينيات إلى الآن، وأنّى لها أن تحمي نفسها من شبح التوقّف الذي يترصدنا في كل خطوة، وكيف تمد يدها لتمسك بالمواهب الجديدة التي طلعت كالشموس من مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي عبر ست دورات من عمر المسابقة، ومسابقة الطيب صالح للقصة القصيرة، وإبداعات أمسيات الخميس بنادي القصة، وما هو سبيلها لنفض رماد الإهمال عن جمر الإبداع القصصي السوداني الممتد عبر عقود، أعني أعمال: عبدالله عجيمي، وحسن أبو كدوك، والزبير علي، وخوجلي شكر الله، وسامي يوسف، ومحمد خلف الله،.. كيف تؤسس لنقد سردي متقدم بدلاً من التسكع في أروقة النص بأدوات عفى عليها الزمن، هل باستطاعتها أن تلملم تراثنا الشفهي الضخم من القص المسرود بمئات اللغات واللهجات، وكيف تلامس الصحيفة سقف أحلامنا المنتهكة بضراوة واقع لا يحتمل.. وكيف.. وكيف؟ دعونا نحلم معكم أن يستمر هذا المشروع الثقافي، وأن يجد الدعم المعنوي والمادي من الجميع، حتى لا ينضم إلى جملة المشاريع الثقافية الكبرى المجهضة في ذلك الوطن “السعيد”.