المشاكسات الفكرية التي تولي شرف الاختلاف جل احترامها، وتعطي المجتمع بإنسانه وأشيائه قيمة اعتبارية تفتح بابًا نحو فضاءات واسعة لحرث تربة الأفكار واستصلاح بيئة نافعة لزرع صباحات من الإنارات الثقافية والتجليات العميقة التي ترتقي بمعنى الحوار وتعزز فضيلة النقد النزيه، وتحفز ذوي الاهتمامات الأدبية الفكرية في الإقبال بشهية مفتوحة على كل مادة استكملت اشتراطات النجاح، وكلما ارتقى الأديب بأدوات نقده كان في ذلك المحفّز المعرفي والتحريض النقي لحوار مختلف يثير غضب أسئلة العصر، ويزيل أردان الرتابة التي رانت على بيئة النقد أعوامًا عديدة، فقد ولى ذلك الزمن الذي لا نجد فيه إلا رفضًا مطلقًا أو موافقة مرسلة؛ فالحياة دومًا لا تحلو إلا بإشكالاتها الثقافية ومشاغباتها الفكرية، وكل تقدّم في المجالات الإنسانية والمادية هو إجابة على أسئلة مختلفة. وكعادة ملحق الأربعاء يشكّل مختبرًا فكريًّا يصنع لنا كل صبيحة أربعاء معادلات تميّز وسمو من الفكر الغني والزاد المعرفي، ويأخذنا بجديدة وجاذبيته طواعية إلى آفاق حديثة تلبي توقنا إلى ينابيع المعرفة النقية، فعبر هذا الملحق تتماحك الأفكار وتتمازج وتتشاغب الرؤى وتتعانق فضائل النقد وتتصافح الأقلام استعدادًا لإضاءة مدائن أخرى من الألق والمتعة. ولعل في مشاركات الأخ الدكتور عبدالله العسيلان والأخ الدكتور عبدالله باقازي بعضًا ممّا ذهبنا إليه، وذلك عبر الحقائق التي يرى العسيلان أنها غابت عن الدكتور باقازي والتي تمثّلت في: 1- اتهامه للأديب محمود شاكر بشراسة الطباع وتعاليه على الناس ووصفه للدكتور زكي مبارك بالمختل عقليًّا. 2- اتهامه لطه حسين بمنع محمود شاكر من إكمال دراساته العليا. والحق أن ما ذكره العسيلان هو ما أتى تحت عنوان: طه حسين والرؤيا النافذة للدكتور عبدالله باقازي. وبدا واضحًا أن السائق الأول لتعقيب العسيلان هو التقدير الكبير للرموز الفكرية حتى من خارج الوطن، ورفض الإساءة لهم وهم أموات، واستعراضهم على مسرح الحياة بصورة لا تليق بهم. وكم نحن ممتنون لخطاب العسيلان الذي تميّز بشدة الصون لهذه القامات الفكرية والصرامة مع من يشكّك أو يلمز في نتاجهم وسيرتهم دون رصيد معرفي، وكان ردّه جادًّا لا يقبل المجاملة أو المهادنة. وما إن فرغت من تعقيب العسيلان حتى صرت أُمنّي النفس بجولة أربعائية قادمة بطلها باقازي مدافعًا عن رؤيته خاصة وأنها لم تعبر كما كان يتوقع طيفًا يخطفنا ضوؤه ولا نستطيع القبض عليه لظنه أن رؤيته لا يضرها الغلط والحكم النقدي أنه لم يقترب من حدود الغلط، معتقدًا أن الآخرين لن ينكروا عليه ولا يثار لهم انتباه. وشرف موكب الأربعاء 10 ربيع الأول حاملاً رد الدكتور باقازي، أو تعجبه من زميله المحقق الذي كتب مقالته الردية وهو تحت تأثير الانفعال والحنق كعادة المحققين، مختتمًا ردّه بأسطر أعتقد أنها تلين المواقف وبها من الالتفاف ما بها، وإن كانت تميل للدعاية وتسجيل حضور للذات بطريقة ما. وكان مركز الرد يتمحور حول نفض تهمة كراهية محمود شاكر وزكي مبارك وأن مؤلفاتهما تأخذ حيّزًا من مكتبته، ونقول إلى هنا والورقة باهتة فكان الأحرى به تجاوز الأشياء والتحرك صوب فكر التراث وتأمل أصوله وتحليل مضامينه بدلاً من حب هذا وكره ذاك، فالمرحلة يا دكتور لم تعد ترحب بتلك الذاكرة التي يغلب على حاضرها حضور أصغر الأشياء، والتي لا تهمنا في شيء خاصة عندما تفتقد شهود العصر، وأعتقد أن استعراض مؤلفات الأدباء المعنيين والأسماء والمواقف دليل ضعف لم يفطن له الدكتور، وكم كنا نتمنى أن نجد مادة تجلي الموقف بأدلة صادقة وحقائق ملموسة بدرجة ترتقي بوعي المتابع، وكنا نطمح من الدكتور أن يكون خارج دائرة الأشياء ليراها بوضوح، فقد ابتعد عنه التوفيق قليلاً بداية من العنوان الذي غرق في شبر من ماء التقليدية، وانتهاء بالمتن الذي لم نجد فيه سجالاً يحكمه انضباط منهجي نقدي، ولم نصادف تعاطيًا يعكس مهارة ناقد متخصص في العربية وآدابها، وكأني بهزيمة الدكتور قد توزّعت في اتجاهات مختلفة في ظل مقولات دفاعية مأزومة وأسلوب لا يقل أزمة؛ حيث بدا الارتباك في المعاني وضعف الروابط وترهل الأفكار. ولعل ما يميز مجال الفكر اختلاف وجهات النظر وهو أعظم فرصة لتواصل المجتمع وتمتين التو اشج الذي يفتح باب الاحترام وينصت للآخر.. شكرا باقازي شكرًا عسيلان، فما أنا إلا مشارك أغرته رائحة موائد أفكاركما، وسمح ملحق الأربعاء مشكورًا لورقتي هذه أن تستنشق رائحة مطابعه. (*) تعليم محايل عسير