انتهينا في الجزء الثاني من تقرير اهمية القياس وأن النبي قاس ليعلم الناس القياس لا ليستنبط حكما كما سيتضح واما القول بان قياس النبي قياس رباني وقياس البشر قياس عقلاني فهو مثل من يقول قبول النبي لخبر الواحد قبول رباني وقبول البشر قبول عقلاني، علما انه لو كان ربانيا لما احتاج النبي للقياس ثم ان هذا الكلام يلغي مبدا اجتهاد النبي ولا اعلم اذا كان الشيخ يقول به ام لا ولكن ما هو مقرر عند الاصوليين ان النبي يجتهد فيصيب او يخطئ ويصححه الوحي كما في اسرى بدر فلو كان اجتهاده في اسرى بدر ربانيا لما أخطأ فهو يجتهد والقياس اجتهاد ، هذا فضلا عن انه لا يقيس لتحديد الحكم بل يعلم القياس لتحديد الحكم فالخثعمية التي قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: “ارأيت لو ان على ابيك دين اكنت قاضيته فقالت نعم فقال دين الله احق بالوفاء” يعد قوله تعليم لها لمعرفة الحكم فهو لم يقس وانما امرها بالقياس للوصول للحكم وهذا ما نريد تقريره ومثل قول الشيخ ابن عقيل قول بعض الحنابلة المعاصرين الذين يقولون نحن نتبع منهج السلف ثم اذا أتيتهم بطريقة فهمهم للنص قالوا لك هم يعلمون موارد التشريع اكثر منا فقياسهم صحيح وقياسنا خاطئ او فهمهم للنص صحيح وفهمنا خاطئ وهذا ينسف مبدأ الاجتهاد برمته لانهم جعلوا هناك دائرتان الدائرة التشريعية للنبي والصحابة، ودائرة الإتباع المحض وهذا التقسيم الثنائي هو ما أودى بنا الى الهاوية الفكرية والثقافية التي نعيشها. وأما موقفه من المصلحة فسنجد انه لم يضعها في موضعها الحقيقي كما فعل اهل الرأي الذين جعلوها تدخل مع النص في التطبيق او الفهم وانما جعلها من قبيل السياسة التي للحاكم ان يتخذها فقد اختزلها في اجراء سياسي لاغير مع انها لو كانت كذلك لما اصبحت موضوعا اصوليا ولا صبحت سياسة شرعية أي نظام وهذا حال كل من يتناول المصلحة في ابحاثه في عصرنا فانك ما ان تجد من يتناول المصلحة الا وتجده سرعان ما يأتيك بأمثلة سك النقود في عهد عمر واتخاذ الدواوين وفرض المكوس واتخاذ السجون وجعل التاريخ يبدا من الهجرة فهذه ذات ثقل في ابحاثهم وتسمى بالمصلحة المرسلة في ادبيات الاصوليين ويقولون ان هذه الافعال هي من شرعت للمصلحة وهذا خطا فادح لان هذه اعمال دنيوية بسيطة لا علاقة لها بالمصلحة الشرعية التي يريدها الشارع والتي تظافرت النصوص على اثباتها ، فهذه المصلحة المرادة للشارع هي المصلحة من تشريع الاوامر والنواهي الدينية المحضة نفسها والتي بمجموعها تشكل ثقلا يدخل في فهم اي نص شرعي جزئي ويدخل في تطبيقه ايضا ولا تتمثل في تلك الامثلة لانها من المباحات والتي راى الحاكم السياسي العمل بها ولا علاقة للفقه او الاصول بالتعرض لها الا ان يقول لك هي مباحة، ومثلها الامثلة التي ضربها الشيخ كقتل الجاسوس وقتل مروج المخدرات فهذه سياسات او عقوبات وفي احسن احوالها مسائل فقهية محددة تندرج ضمن حكم القتل تعزيرا وليست نظرا اصوليا معينا في نص معين لنعرف حكمه او نعرف كيفية انزاله على الواقع او الواقعة فلم يكن هناك نص يمنع قتل الجاسوس -سوى نص حاطب وهو لا يصلح للاستشهاد- او نص يمنع قتل بائع الخمر واتت المصلحة لتقرر خلاف الظاهر من هذا النص او تدخل معه في تطبيق النص، نعم للمصلحة دور في تحديد العقوبة ولكن الكلام في التعارض مع النص فلايمكن لهذه الامثلة ان تمثل العمل بالمصلحة في الشريعة فهي مثل وضع جهاز بلدية في زمننا او وزارة اعلام او سجن المزور او المرتشي والمصلحة الحقيقة هي ما تدور حول النص وتحاول ان تجد مكانا او تتموضع كجزء من فهم النص العملي وهذه لم تكن موجودة على نطاق واسع الا عند المالكية او الحنفية تحت مفهوم الاستحسان والمصلحة المخصصة للنص -بكسر الصاد الاول- وهو ما فعله الخلفاء الراشدون في فقههم السياسي وليس الشخصي أي السياسات التي اتخذوها وهي في نفس الوقت لها بعد فقهي مرتبطة بنصوص اما التي لا ترتبط بنصوص فهي سياسات دنيوية كما اسلفت، فمرحلة الخلافة الراشدة من اكثر المراحل عقلانية في التعامل مع النص وهذا ينفي كل ما يقال من ان المناهج العقلية اتت بفعل حركة الترجمة التي حدثت في عهد المأمون، فهذه احدثت توجهات عقلية في الحراك الفكري آنذاك وميولا نحو الفلسفة وساهمت في تطوير النظر في العقائد ولكن من حيث النظر العقلي في الدليل الفقهي الجزئي فقد كان موجودا من قبل عصر المأمون منذ الخلافة الراشدة فلا أظن ان هذا الحراك قد ساهم بشكل اكبر في الفهم فهو ان لم يقل عن فهم مرحلة الخلافة الراشدة فانه لم يزد عليها، فمثلا لم يوضع نص نهى النبي عليه الصلاة والسلام: “عن بيع الكالئ بالكالئ” او النهي عن تلقي الركبان تحت الفحص العقلي الشديد كما هو الحال مع “ان الله خلق آدم على صورته” وربما لان طبيعة الحياة لا تسمح بالتوسع في محاولة معرفة معاني النصوص اكثر مما قرره الخلفاء الرشدون ولذا اتجهوا للعقائد ولكن يبقى التجديد في النصوص الفروعية متوقفا بل قد يكون منتكسا فمقولة “من استحسن فقد شرع” حينما ننظر لها كتوجه او كمادة رئيسية في المرحلة الفقهية التي ظهرت بها نجد انها ضد التوجه الفقهي المصلحي في عهد الخلافة الراشدة. وكذلك حينما تعرض الشيخ للاستحسان نجده قد ذكره كمرجح وهذا الأصل من أكثر الأصول التي اميل إليها وأتحمس لها وفي نفس الوقت هي من أكثر الأصول التي تجهل ويقل العمل بها في زمننا وقد بينت في كتابي الفقه التطبيقي معناه الحقيقي الذي غاب لفترات طويلة وأصلته واستدللت له ، وقد لقي هذا الاصل هجوما شنيعا من اهل الاثر وممن يغلو بالنصوص الجزئية مع انه المخرج الوحيد من مأزق التناقض بين الفقه والواقع في الاحكام العملية وغيابه هو ما جعل مصطلح فقه الواقع يبرز كشئ مفقود نبحث عنه وسيظل مفقودا طالما ان الاستحسان مفقود ، وعموما نجد ان الشيخ ابن عقيل حينما تعرض له قد قال في حقه “والاستحسان بالشرع يعني الأخذ بالأرجح في الاستنباط من موارد الشريعة ومن مقاصدها .. وفي الحقيقة يدخل فيه هو نفسه المصلحة المرسلة” يعني انه قد جعله مرجح كما ذكرت وهو ما ساد في الخطاب التقليدي من جعله مرجحا بين اصلين او جزئين متعارضين واحدهما يتضمن التيسير فيرجح لما به من تيسير والقدماء يضربون مثالا على هذا بحقوق الارتفاق في الارض الموقوفة ومن امثلتهم العامة ايضا طهارة سؤر سباع الطير مع كونها تأكل النجاسات وطهارة مياه الآبار وغيرها وهذا اختزال لانه في حقيقته استثناء من نص في المسألة المنظورة وليس مرجحا بين اصلين متعارضين ولا علاقة للمصلحة المرسلة به الا اذا اعتبرناه معنى عاما فهنا سيصبح فلسفة تشريع اكثر من كونه قاعدة اصولية كبرى وهو بهذا المعنى الفلسفي تفسير لمقولة الاستحسان تسعة اعشار العلم. • باحث شرعي وعضو هيئة التحقيق سابقا Alweet55 @hotmail.com