أمران في بلادنا يعظم الجدل حولهما باستمرار، ولا نجد مثيلاً لهما في سائر أقطار عالمنا الإسلامي، الأول: إن كل أثر له علاقة بتاريخ الإسلام يثار حوله الجدل باستمرار، فينكر البعض وجوده أصلاً، أو يشكك في صلته بالتاريخ، ويمتد الفعل لإزالته عنوة، خشية أن يؤول الاهتمام به كما ظن التيار المعارض للمحافظة عليه والعناية به، إلى ما تصوره وهمًا أنه الشرك، فعندنا فئة متخصصة تعارض بشدة أن يهتم أحد بهذه الآثار، وتسعى جاهدة لطمس الظاهر منها، ومنع البحث عن المطمور منها، ورغم مضي الزمن وهذه الدعوة لإزالة الآثار قائمة إلاَّ أن هاجس المحافظة على الآثار والتنقيب عنها ظل هدفًا مشروعًا يسعى إليه بالجهد الرسمي والشعبي، فبقيت هذه الآثار محددة المواقع معروفة على نطاق واسع، وتواترت الدراسات منذ زمن طويل لإثباتها تاريخيًّا مع تصويرها وتحديد مواقعها، وتسجيل كل ذلك في جداول تحصيها، ورغم الجهود الكثيرة لمحاربة الحفاظ عليها والعناية بها فقد بقيت. والمتخصصون اليوم يسعون لإبرازها، رغم كل هذا الجدل العقيم، الذي حتمًا لم ينجح أصحابه في مسعاهم، والأمر الآخر الذي يكثر حوله الجدل باستمرار أيضًا هو الاحتفاء بالمناسبات التاريخية التي لها صلة بتاريخ الإسلام، كمولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإسراء به إلى المسجد الأقصى ثم العروج به إلى السماء، وهجرته إلى المدينة، والانطلاق بدعوته منها إلى أرجاء الجزيرة العربية، ومثل ذكرى معركة بدر الكبرى، التي كانت معلمًا على الطريق لانتشار الإسلام بعد ذلك، وانتصار قيمه ومثله، وتأكيد وجوده عبر العالم، فكل هذا يعتري البعض عند مرور مناسبته انفعال شديد نحو أن يهتم أحد بهذه المناسبة، أو يفرح لمرور ذكراها، فيخرج عن طوره متّهمًا النيّات، مسيئًا الظن بكل مهتم بها، مطلقًا التهم له بالابتداع ثم يرتقي بالتهمة إلى الشرك، ورغم أن عالمنا الإسلامي كله من حولنا يحتفي بهذه المناسبات علنًا، ودون نكير من العلماء فيه، إلاّ أن الجدل فيها مستمر في أسوأ صوره، ورغم أن هذا الجدل يُستحضر كل عام عندما تمر هذه المناسبات على مدى ما يزيد عن ثمانية عقود مضت، والدعوة إلى عدم الاحتفاء بها متوالية، إلاّ أنه قد ظل الاحتفاء بها قائمًا مع مزيد العناية على مر السنين، فهو عادة دنيوية لا دينية تعبدية، كما يريد البعض أن يوحي بذلك، وكل محاولة لإلباسها لبوس الدّين لينقلب الاحتفاء بها إلى ممارسة شركية محكوم عليها بالفشل، وإنما الاحتفاء بالمناسبات التاريخية إنما يعني استعادة مجد كاد أن يغيّبه ما تعيشه شعوبنا من تخلّف شديد، آثاره بادية للعيان، لا يمكن سترها أو إنكارها، لذا لم تجنِ الدعوة لعدم الاحتفاء بالمناسبات التاريخية ثمارها المتوخاة، ولم تؤثر في مطلب إبقاء هذا الاحتفاء، وظل الناس يفرحون بهذه المناسبات، ويحتفون بها عامًا بعد عام، كما أن التنديد الموسمي الذي نسمعه من فوق سائر المنابر في المساجد وعبر الصحف والإذاعات والقنوات التليفزيونية بالاحتفاء بالمولد النبوي لم ينجح فيجعل الناس في سائر أقطارنا الإسلامية، بل وفي بلادنا يتركونه، ممّا يوحي أن مَن يشنون الحرب على هذا الاحتفاء بالمناسبات التاريخية، ومنها مولد سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يملكون براهين مقنعة تنقل هذا الاحتفاء من المباحات إلى المحرمات، بله أن تملك ما يجعله بدعة أو شركًا، وإن ادّعت امتلاكه لم تحسن عرض ما تعتقد، وهي لا تجد لدعوة الناس لتركه سوى التشكيك في النيات، والتهمة بالبدعة والشرك، والنصيحة لهؤلاء أن يكفّوا عن هذا، فهو ما يصرف الناس عن ما يقولون، وليتّهموا أنفسهم ومَن يقلدونهم، وقد أمضوا زمنًا طويلاً وبذلوا جهودًا مرهقة، وبقي الأمر في جل ما عنه ينهون باقيًا عند جمهور الأمة، وليبحثوا جادّين عن المنهج المتبع من قبلهم، علّهم يكتشفون فيه من العيوب ما لم يتصوروه، ولم يروه واضحًا من قبل، فهل هم فاعلون؟ هو ما أرجو.. والله ولي التوفيق.