من المواقف المشرفة للصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موقف الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه حين أسره الروم في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي قصة مليئة بعزة المؤمن أرويها لكم مطعمة بمقاطع من قصيدة (الوصايا العشر) للشاعر أمل دنقل وضعتها بين هلالين. ورد في سيرته أنه عندما وقع في الأسر جيء به ليقابل القيصر، وعرض عليه قيصر أن يطلق سراحه مقابل أن يرتد عن دينه فرفض رفضاً قاطعاً، فعرض عليه عرضاً أشد إغراء: أعطيك نصف ملكي وتترك دينك، فرد عليه فوراً: بل والله لو أعطيتني كل ملكك وملك العرب لما تركت ديني (لا تصالح ولو منحوك الذهب ... لا تصالح ولو توجوك بتاج الإمارة)، فقال له قيصر: إذاً أقتلك! فما اهتز ورد عليه: انت وما تريد! (لا تصالح ولو قال من مال عند الصدام:» ما بنا طاقة لامتشاق الحسام «)، فأمر قيصر بصلبه فصلب، وجيء بقدر من الزيت المغلي وألقي بأحد الأسرى في القدر أمامه حتى رأى عظامه تلوح وقد ذاب لحمه عنها فما تزحزح سيدنا عبد الله لأنه (عندما يملأ الحق قلبك، تندلع النار إن تتنفس، ولسان الخيانة يخرس)، فأمر قيصر بإلقائه في القدر. قربه الحرس من فوهة القدر فإذ به يبكي مر البكاء فقالوا : جزع! أخيراً جزع! فردوه إلى قيصر مرة أخرى فسأله: أتراجعت؟ فرد عليه بما لا يسره: لا والله لم ابك من الخوف وانما بكيت لأن لي نفساً واحدة وودت ان يكون لي انفس بعدد ما بجسمي من شعر فتلقى كلها في الزيت في سبيل الله .. بكى سيدنا عبد الله متحسراً لأنهم إذ يلقونه في القدر سينتهي جهاده وعطاؤه وقدرته على الكفاح والعمل لأجل الله، (هي أشياء لا تشترى)، فاندهش قيصر وبهت من هذا الرجل الذي لسان حاله يقول (لا تصالح، ولا تتوخ الهرب)، فعرض عليه عرضاً جديداً ظاهره أنه طلب بسيط وباطنه مليء بالذل الذي لا ينطلي على من تربى في ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له : قبل رأسي وأطلق سراحك، فعاجله سيدنا عبد الله بالرفض! (كيف تنظر في يد من صافحوك، فلا تبصر الدم في كل كف؟) فعندما رأى قيصر مدى ثباته وعدم تزحزحه شعر أنه يواجه نداً له وليس مجرد إمعة يمكن إسكاته بكلام رخيص وبمكاسب تافهة (فما الصلح إلا معاهدة بين ندين)، فقال له : قبل رأسي وأطلق سراح كل أسرى المسلمين، فرد عليه سيدنا عبد الله: أما هذه فنعم (لا تصالح، إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة) فقبل رأس قيصر قبلة حرر بها كل الأسرى وهو معهم، ومضوا إلى مدينة العزة والكرامة، مدينة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وحين علم سيدنا عمر رضي الله عنه بما جرى قال: حق على كل مسلم ان يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا ابدأ بذلك، فقام وقبل رأسه وتبعه أهل المدينة يقبلون الرأس التي رفعت رؤوسهم، وحق لهم أن يكرموا أبطالهم وأبطال هذه الأمة ومقاتليها الذين لا تهمهم أنفسهم وإنما كل همهم في نصرة المظلوم، وكل سعادتهم في التعب والنصب وهم يحققون مراد الله منهم في عبادته وفي عمارة أرضه (إن عرشَك : سيف .. وسيفك : زيف إذا لم تزن - بذؤابته - لحظات الشرف، واستطبت الترف)، ويعلمون يقيناً أن العزة لله ولرسوله والمؤمنين، فتجدهم عزيزين في حياتهم، عزيزين في مماتهم، وحين يترك أمر الأمة لهم في ظروف صعبة لن يبدلوا تبديلاً بل سيمضون في طريق الحق ولو كان ذا شوكة، فإرادتهم ونيتهم وحدها تكفي لتحطيم المستحيل (لا تصالح، فليس سوى أن تريد .. أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد وسواك المسوخ .. لا تصالح لا تصالح!). أحمد مصطفى صبري - جدة