في أمكنةٍ تهامية غبراء المنظر، ضاربة في القِدم كالقرية، تتزاحم في سهولها المنازل الأثرية المتصدعة والآيلة للسقوط، وتتلاحق في دروبها الترابية السيارات القديمة، دروب معتمة يتزوبع في فضاءاتها الغبار، في ضوء النهار وفي عُتم الليل، الأزقة تبدو باهتة مهجورة بجدرانها الطينية، حتى إنك لا تكاد ترى من يبتسم أو يلهو، الكل مُنهمك في ملاحقة الرزق، والضوضاء والصخب يدوي في جنبات القرية، في دهاليز الحياة المعتمة الرطبة، تسكن الهموم، وتتشرنق حولها الأحزان والتعاسة، وتنسج الكآبة خيوطها في حنايا القلوب، ورغم ذلك ما يزال الناس يمارسون إثبات وجودهم بحرارة كاملة.. نظر “محسون الدربي” إلى الأفق الأرجواني البعيد، بنظرة ملؤها التوسل والاستعطاف بعمره الثلاثين، ثم زفر زفرة الثاكل، في صدره تعتمل أمواج من الأحاسيس المتنافرة، تصبب عرقه الباهت من وجنتيه كطل الصباح، بفعل أشعة الشمس الصفراء المحرقة.. ضاق صدره على عظامه وثوبه على جلده، حمل سائر جسده إلى متاهات مجهولة، أرسل نظراته الخافتة إلى عقارب ساعته المضطربة، متقدمة عن وقتها أو متأخرة لا فرق، فالزوال لكل شيء يرتحل حتمًا إلى النهاية، ذهب إليها.. يحمل الجوع والملل والكآبة، وصل بيته كالغريب عنه، من شدة السآمة منه، تأمل سيارته المهترئة، شاهد وكأن مخارز قد دُقت في إطاراتها المطاطية الرخوة، كأنها مغروزة في قلبه، تركها متواريًا إلى قبوه، أو صد الباب في إثره شرع في خلع ملابسه القطنية، تَصْطَلِي حرارة تلظى، وكأنها الفولاذ، تنهد من أعماقه، تحلّل من قيوده الثقيلة رمى بها جانبًا، دخلت عليه “سعدى” شريكة العمر.. رأته صامتًا، مستلقيًا على سريره الخشبي، لا يروم سعادة شحيحة هانئة، شاهدها طويلة فارعة ممتلئة الجسم، وكأنه يشاهدها لأول مرة، كان يبدو أمامها قزمًا.. سألته بتضجر وكبرياء: أتريدُ الغداء؟ أحسَ بالشبع تلك اللحظة، رغم أن عويل الفاقة في معدته التي تصطرع بضراوة، ردّ عليها ببرود مريب: لا. لا، لا أشتهيه. استدارت من أمامه بوجوم، بعد أن أوجست خيفة في نفسها، إلى حيث الطعام الساخن يفترش أرض المطبخ الصغير، منتظرًا من يلتهمه..، مكث يتحسس المكان، وكأنه في كهفٍ مخيف، محدقًا في السقف الأسمنتي الأبيض، بعينين غائرتين، وسارحًا في تفكير شارد، كأنما يدبُ في صحراء مقفرة بقدمين حافيتين، يموت عطشًا لقول الحقيقة، تتألم لسانه مع لهاته من هول ما يختزله من كلامٍ خطير مقيدًا من الخوف، فكّر وقَدّر.. لو أظهر ما يدور بخلدهِ لسعدى، فسوف يكون متطرفًا في نظرها.. وسيزيد تقزمًا وذبولاً أمامها حتى يتوارى في صمت، مدَّ يده المرتعشة إلى حيث تنام صحيفة بالية، نشرها بهدوء، تصفحها، قرأ عناوينها الحمراء والسوداء، وكأنها تتقاطر دمًا ودموعًا ومآسي، تُبلل ضميره ومشاعره، ونوبات النعاس اللذيذ تجلده كالمخدر، حاول الصمود، تعالت غارات تثاؤبه، قرأ عناوين بارزة، عن الفوز والهزيمة، في الصفحة الرياضية، الكل يسعى للفوز والظفر بشتى الطرق، والكل يرفض الهزيمة لأنها مقتٌ وذلٌ وهوان، وعندما تتحول الهزيمة إلى فوز ساحق. تنتصر الجماهير بنشوة لنفسها. إحساس داخلي بحفظ الكرامة المجروحة، الهزيمة ابتلاء للإنسان منذ القِدم. والمسلم مُبتلى، وبلسمها الصبر.. في كل الأحوال، والدعاء وحده لا يكفي لرد النوائب..، أخَذتْ محسون الخواطر إلى حد الهذيان بِما يقرأ، قفز ليقرأ في صفحة السياسة، كيف يكون مصير الشعوب مرهونًا بكلمة فيتو، ب”لا” المانعة لاستقرار وحريات الدول المستضعفة النامية، لا. الرافضة للحياة الكريمة، وآثارها النفسية على الشعوب المضطهدة، تذكر زوجته.. إنها تحتقر كلمة “لا”. وخاصة إذا تلفظ بها، أصبح مصيره هوَ الآخر تحت رحمة كلمة “نعم” دومًا، إنه مضطهد أيضًا، ومسلوب الإرادة والحرية.. عادت إليه تحمل الشبع المزيف، رأته يتظاهر بأنه يقرأ، بينما هو خائفٌ يترقّب.. بماذا تفكر؟ سألته سعدى. واكتسحها صمت كئيب، أشاح عنها صامتًا بعد أن ألقى الصحيفة جانبًا. مثل متاع مهمل، جابه بوجهه الجدار، تعالت تنهداتها الغاضبة، شَعرَ بزفير ثورتها يتصاعد، وهي متحفزة ومتربصة بانتظار ما يريد قوله، تأتأ بحروفه الأولى، وقد أحس باحتباس الحروف في حنجرته، كمن يوشك على الغرق في جوفِ اليّم، إلا أنه صمد وتوكّل، قال: إنني مسافرٌ اليوم وحدي إلى مدينة جدة.. قاطعته بثقة: وأنا معك طبعًا؟! تبسم بسخرية فاترة: لا، سوف أذهب وحدي.. ولماذا.. ؟! أتذهبْ لتُحرِر القدس..!! سألته بازدراء وتهكم. هز رأسه بأسى، وبقلبٍ كسير: لا، ولكنني لن أذهبْ للتنزه.. ولن أتأخر! أصبحتُ ثقيلة عليك، أليس كذلك؟! قالتها بأسى ثم خبّأت ثورتها في أعماقها المتقدة، دقَّ قلبه بقوة يرتجف فرحًا بصراحته، أحس بلذة الانتصار، وبنشوة طارئة تجتاحه، مثل انتصار عصفور جريح على صقرٍ جائع، سرعان ما ينتهي الضعيف بين مخالب القوي المتجبر. تلك سُنّة الحياة.. كان يعرف مصير رفضه لها، لأنها لا تحب كلمة “لا” تصدر من فمه، فهي تمقتها كثيرًا. *** أحس بدوارٍ وضيق في المكان، كان صمتها، كالسكاكين تحَزُ جلده الناعم، عاد بذاكرتهِ للوراء، موسوسًا مع نفسه بحذرٍ شديد.. إن حق النقض عندها، إذا قلتُ لها لا، ومصيري بيدها، لابد أن أقول لها “نعم” دائمًا، كما هو مصير شعوب فقيرة، معلق بكلمة فيتو الأقوياء على الضعفاء، لا بد أن يرضخوا للمطالب القاهِرة.. اللعنة على بافلوف ونظريته التي طُبقت على كثيرٍ من الأبرياء والسُذج. وعليّ، عندما أسمعها تسيل همومي وأحزاني كلعابي، أستجيبُ فورًا لمطالبها كالأعمى. حمل جسده يبحث عن هواء جديد، بعد أن نفدَ هواء غرفته الكئيبة، أحس بشيءٍ يلتف حول عنقه ويخنقه، دلف إلى غرفةٍ أكثر كآبة مغلقة منذُ زمن، كانت نظراتها تلاحقه بازدراء وغضب، لمعت عيناها كعيني قط متوحش، جلس يقلّب في أتونِ كتاب مهمل قد غلّفه الغبار عنوانه (كيفية الانتصار بعد النكسة)، يتأمل بعينيه، وهو لا يكف عن التثاؤب، حتى وقفت أمامه يعتريها الغيظ والحزم والصرامة.. سوف أذهبُ معكَ إلى جدة، لن أبقى وحدي.. قلتُ لا .. أنتَ تعلمْ أنني أمقتُ لا. من كل قلبي.. الضعفاء أيضًا يمقتونها.. لكن هذه المرة لا. سوف تندم.. ودع “لا” تنفعك.. ثم ولّتْ مسرعة إلى غرفة النوم، أغلقت الباب بعدها بقوة، أصدر صوتًا مدويًّا، أحكمت مزلاجه بالمفتاح، تبعها مُعاتبًا لها على ذلك الصخب، ومحاولاً إقناعها بتسوية سلمية تحفظ حقيهما في تقرير المصير، يبحث معها عن السلام المزعوم، لكنها فاجأته بأنها سوف تنتحر، سمعها، تبادر إلى ذهنه صدقها، فهو يعرف جيدًا سوابقها للانتحار، إنهُ حيلة المقهورين، فقد حاولت مرارًا في الماضي بأساليب مختلفة، كتناولها ذات مرة أقراصًا من دواءٍ خطير لكن الله نجّاها..، دفع الباب بقوة، ثم نظر إليها من كوة الباب ليشاهدها تتهيأ لشيء رهيب، كان كناطح الصخرة، لم يستطع، بدأ عرقه يتناثر، وأعصابه يسري فيها حالة عارمة، دبّت في كيانه غريزة الخوف، اقترب من نافذة أخرى، شاهدها وهي تشرع في لفِ سلك نحاسي نحيف حول رقبتها بعنف، توسل إليها، تعالى صراخه، خاطبها بكلماتٍ رقيقة حتى يستميل عطفها عليه وتكفْ عن الشروع في قتل النفس التي حرّم الله قتلها إلا بالحق، فقد وعىَ هذه العبارة كثيرًا من وسائل الإعلام المتنوعة، الناصحة لأولئك الغلاة، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفسدون حياة الجماهير باسم التربية الدينية، حفنة منهم يهرولون مُحزّمين بالموت المنظم، حتى هيَ، أفسدت شخصيته بإرهابها الدائم له! لم تُعرهُ اهتمامًا، عاد بنحيبه وتوسلاته وتخويفها من الله، بينما هي في طريقها إلى الموت، تمتمت بحروفٍ مخنوقة: سوف أقتلُ نفسي لترتاح مني.. سألها بالله أن تتوقف فورًا، وعن شد ذلك السلك اللعين حول رقبتها النحيلة، علا صراخه ونحيبه، لم يستطع الدخول إليها وإنقاذها. - قلتُ لكَ إنني أمقت كلمة لا. وتحشرجت بحروفٍ مضطربة، كانت عيناهُ إلى السماء يدعو الله اللطف، حاول كسر الباب، فلم يستطع لقد تكسّر قلبه ألف مرة في ذلك اليوم الرجيم، حاول كسر النافذة. فكانت كالطود العظيم، والوقت يذهب سريعًا كالبرق، بينما هي تواصل شد ذلك السلك الخانق حتى غار في رقبتها، مُثّلَ له في حينها رقاب آلاف الأبرياء كيف يذبحون باسمِ التحرير! بدا له أن حدقاتها تنز تدريجيًّا من بين رموشها الدامعة، تمنى لو أنه مات منذ زمن. فلا يعيش تلك النكسات، ووجهها يتحول إلى السواد القاتم، أظلمت الدنيا في عينيه، فلم يعد يرى شيئًا سوى أشباح الظلام تحمل الدمار..، تمنى الموت سريعًا، حتى لا يحصل له ذلك الموقف العصيب، انتابه البكاء الصاخب أمامها، وهو خلف قضبان النافذة. تلفهما قضبان سجن الحياة الكبير..، عاجزًا عن فعل شيء، تمتلكه إعاقة القدر على صنع معجزة، تنقذها سريعًا من مستنقع الجنون الرهيب، ذكّرها بحبه لها، وعدها بالسعادة والدلال والتنزه الدائم، كوعود الدول العظمى بالديموقراطية، أخذت تصيح في وجهه عنادًا، وهي تتهاوى تدريجيًّا أمام ناظريه، مثل تهاوي أحلام البشر بحياة كريمة، في قفص من جدران عتيدة، تتساقط أجزاء تلك الضعيفة على القدر، بينما هو يهوي من مكان سحيق كتمثال صُنع لرئيس مخلوع مكروه! صرخت بصوت مبحوح، ودموعها تغرق المكان: أنا لا أريد إلا الموت، لأنك لم تعد تحبني من قلبك، أصبحتّ مستودعًا للأسرار. ضحك ساخرًا من قولها، ثم تمتم مُعقبًا: كيف للنساء أن ينتصرنّ لأنفسهن بهذه العقول؟! كانت كلماته كالقاصمة لظهر البعير، جعلتها تغرغر وداعًا، فهو كمن نضَحَ على النار وقودًا سريع الاشتعال، وتراءت له روحها البريئة تودعه متهيئة للرحيل الأبدي، بينما طفق ينتحب أمامها متوسلاً لها، ودموعه تبلل رموشه كعصفور بلله المطر، ترجاها بإخلاص أن تتوقف، لم يفلح في إثارة كوامن مشاعرها الطيبة..، حتى هوت على الأرض وحيدة كخشبةٍ رثةٍ مقفرة من دبيب الحياة، تعالى صياحه بجنون، حتى شق جناح الظلام الدامس، وملأ فضاء الغرفة، وقد اختلطت رجفته بعرقه، تمتم “محسون” بهمسٍ مرتعب، بعد أن نهض وأفاق: لقد كان حلمًا مزعجًا، كاد يغتصبها وهي نائمة فرحًا وسرورًا ، ثم لهج لسانه بالدعوات بأنه قد رأى في المنام حلمًا عابرًا يشبه الحقيقة، كانت زوجته سعدى إلى جواره، تغط في نوم عميق، والليل المظلم يرتحل.