ذهبتُ إلى المسجد النبوي الشريف ليلة الثامن والعشرين من رمضان، وبعد صلاة التراويح، أردتُ رؤية المواجهة الشريفة عن بُعد، فمشينا من المصلّى، وارتكزنا بالجدار لعلّنا نحاول أن نأخذَ نظرة خاطفة، ولكن التفت إلينا أحد المسؤولين الذين يلبسون المشالح، وقال لنا أن نبتعد، فوضع نعله على كتفي لكي أتراجع!! وهو يقول: “بعّدي يا حجية”! وهذا في ظني حتّى لا يلمسني بيده!! إن حرمة المكان حالت بيني وبينه أن أفعل شيئًا، ولكن قريبتي لم تستطع أن تكظم غيظها من هول ما فعل، فأخذت تقول له: “حسبي الله عليك ونعم الوكيل”، وطالبت باسمه فلم يعطها، فأتت سيدة من ورائنا وقالت: “لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي”، وانتهى الموقف. وفي نفس هذه الفترة، روت لي إحدى صديقاتي عن تجربتها في المسجد الحرام، عند الكعبة المشرّفة، حيث أتاها أحد المسؤولين، وطلب منها أن تغطّي وجهها، وقد كانت مع والدتها، فلم تستجب له، فرفع يده تجاهها، ودعا عليها أن يبلوها الله بسرطان!! صُدمت الأم من دعوة ذلك المسؤول على ابنتها، فأخذت تحاول معرفة اسمه، ولكنه اختفى! لم تنقطع صديقتي عن البكاء طوال صلاة التهجّد من هذه الحادثة، اجتمعتُ معها، ومع مجموعة من الصديقات، والذين مرّوا بمواقف مختلفة، وأردنا أن نكتب تقريرًا رسميًّا بأسمائنا، والحوادث، والمواقف، والشهود، والتواريخ، ولكن مضى بنا الزمن ولم نفعل شيئًا. وعندما ذهبت مع أهلي إلى المسجد الحرام الأسبوع الماضي -وبالتحديد في يوم 11 صفر- حيث تكون مكةالمكرمة، والمدينة المنورة أقل زحامًا، حيث إن باب العمرة مغلق حتّى أواخر صفر تقريبًا. فأردتُ أن أستشعرً شعائر الله، وأبتهلَ إليه في بيته العتيق. وكنتُ متعطشةً للدعاء، والطواف، والصلاة، والاستغفار، والتوبة من الذنوب في أشرف بقاع الأرض.. بدأنا الطواف بالتكبير، وفي الشوط الثالث أو الرابع تشبثنا بالكعبة المشرّفة، ندعو، ونبتهل إلى الله أن يغمرنا برحمته وسائر المسلمين. وإذا بأحد المسؤولين بمشلحه يوجّه لي الكلام بأنه لا يجوز كشف الوجه، ويزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بها المُحْرِمات، وغير المُحْرِمات. أردتُ أن أقولَ له شيئًا، أن أرد عليه. ولكن ماذا أقول؟ هل أعطيه درسًا فيما أعرفه من الفقه؟ وأنا أمام الكعبة، وأنا أعلم أنه سيؤدّي إلى جدال، وأنه “قاتل الله اللجاج”. إن غالبية المذاهب الفقهية تعتبر تغطية وجه المرأة وكفيها من مبطلات الصلاة والإحرام، ومن المحظورات التي توجب على فاعلها فدية. فالله لا يتعبد الخلق بكشف عوراتهم، وفي الاختلافات المذهبية جدل تاريخي على مر العصور، ولكن إن ثبت في مذهب استحباب تغطية الوجه أو وجوبه في الإحرام، فهو محل اختلاف واجتهاد بين أئمة، فلا يحق للإمام تحميل المسلمين والمسلمات التقيّد بمذهب دون غيره من المذاهب؛ لأن هذا لا يجوز شرعًا. فثقافة الاختلاف يجب أن تُحترم. في نفس فترة وقوفنا على أستار الكعبة، أتت أخت وقالت لنا إنه لا يجوز التمسّك بالكعبة وقت الدعاء؛ لاعتقادها أنه تبرُّك غير مشروع. إن المراد بالتعلّق بأستار الكعبة: هو التشبث بها، والالتصاق بأركانها وكسوتها، ويُراد من التعلّق الإلحاح في طلب المغفرة، وسؤال الأمان، كالمذنب المعلّق بثياب من أذنب إليه. وقد ذكر الفقهاء حكم التشبث بالكعبة، وقالوا بأنه مندوب، وهو من آداب الزيارة. وقد ذكر الطحاوي في مختصره عن أبي حنيفة أنه إذا فرغ من الطواف، يأتي المقام فيصلّي عنده ركعتين، ثم يأتي زمزم فيشرب من مائها، أو يصب على وجهه ورأسه، ثم يأتي الملتزم، ويتشبث بأستار الكعبة، ويدعو ثم يرجع. «وينبغي أن ينصرف، وهو يمشي وراء وبصره إلى البيت، متباكيًا متحسرًا على فراق البيت؛ حتّى تخرج من المسجد.. وفي ذلك إجلال البيت وتعظيمه، وهو واجب التعظيم بكل ما يقدر عليه البشر، والعادة جارية به في تعظيم الأكابر، والمُنْكِر لذلك مكابر، وهذا تمام الحج».. الزيلعي في تبيين الحقائق. ما نراه اليوم من توجيه عند الكعبة المشرّفة، واستعجال المعتمرين والمعتمرات الذين يبتهلون إلى الله، هو تضييق على المتطوفين. يريدونهم أن يستعجلوا فيوجهون الناس بحجة أن التمسك بالكعبة غير مشروع، فلا يعطونهم فرصة للخشوع. وأعود لتجربتي، فبعد أن انتهينا من الطواف، وتهيأنا لندعو دعاء الملتزم في الصفوف الأخيرة من صحن المسجد الحرام، أتت إلينا مسؤولات، وقلن لنا أن نقوم.. لماذا؟ قالت لنا نحن ننظّم، فقلتُ لها: إنه ليس وقت أي فرض من الفروض، والحرم ليس مزدحمًا، فهناك مسافات كبيرة خالية. فقالت لنا أن نذهب إلى جزء صغير مسوّر في الطرق، وندعو هناك. إن حلاوة النظر إلى الكعبة حلاوة ليس لها مثيل، فإن ذهبنا إلى تلك المنطقة لن نستطيع رؤية الكعبة. لماذا كل هذا التضييق؟ لقد أتينا من بلاد بعيدة، بذنوب كثيرة، وأعمال سيئة، قاصدين البيت الحرام لتجديد العهد والتوبة إلى الله، ولكن نواجَه بتضييق علينا من قِبل بعض المسؤولين والمسؤولات في الحرمين، يحاولون -ربما بدون قصد- أن يحولوا بيننا وبين الروحانية والخشوع. وأين نجد هذه الروحانية أكثر من بيت الله الحرام؟ نعم يجب أن يكون هناك تنظيم في المسجد الحرام، ورقابة لا شك في ذلك، ولكن ليس من العقل أن يدلي البعض بآرائهم بغير علم، كمنع التمسّك بالكعبة عند الدعاء، إلاَّ إن كان تنظيمًا خشيةً على كسوة الكعبة من التمزيق، وحسمًا للفوضى، ولكن لا يكون منع ذلك بادّعاء حرمة التشبث بالكعبة، أو كونه شركًا! لن يسعني القلم أن أعبّر عن مشاعر كثيرة، ومعاناة ومواقف في الحرمين من سوء معاملة بعض المسؤولين والمسؤولات للحجاج والمعتمرين، من المواطنين، والمقيمين، والوافدين، والزائرين. لكني أتمنّى من المسؤولين النظر في هذه الملاحظات، والتي أتمنّى أن يكون هناك تهيئة لمَن يعمل في هذه المشاعر من توجيه وتعليم فقهي بمختلف المذاهب الأربعة، وخاصة موضوع غطاء الوجه للمرأة المُحْرِمة، ولأنني سئمت من هذه التوجيهات في الحرم، وهذه القضية يجب أن تُحسم. لقد تعلّمتُ من أجدادي لأمّي، وهم أئمة، ومطوّفون، وقضاة في الحرم المكي، يملكون حق الطوافة من أجيال، أنه لا تغطية لوجه المرأة المُحْرِمة. ونحن أيضًا كدولة قدوتنا خادم الحرمين الشريفين -اسم على مسمّى- الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والذي نراه يُكرّم المرأة السعودية، ويقلّدها وسام أبيه الراحل الملك عبدالعزيز، مؤسس الدولة وموحّدها. نرى وجوه هذه الشخصيات في الشاشات، والصحف، وهن يبتسمن، ويستحيين فخرًا من هذا التشريف. فلِمَ التناقض فيما نراه، ونعلمه، وكبرنا عليه؟ وبين بعض المسؤولين والمسؤولات الذين يوجّهون، ويأمرون، ويناقضون ما كبرنا عليه؟ أرجو أن يُؤخذ سؤالي هذا من الجهة المسؤولة بطيب خاطر، وصدر رحب.