..لقد سمح لي الرّجوع إلى وثائق النّادي المتمثل بالإصدارات والمحاضرات التي ألقيت على منبر النّادي الأدبي الثقافي بجدّة. وإن النّاظر في بيان إصدارات النادي يدرك أمْرين أساسيّين على الأقلّ: * تنوّع الموضوعات وإن كانت من نفس الدائرة كما قلت، وتنوّع حتى في طرق الصّياغة * الحرص على تشريك غير السّعوديين من العرب في نشاط النّادي، والتّعويل في ذلك على الأسماء المعروفة التي أصبح بعضها معالم في المشهد الثقافي العربي المعاصر. ومن خلال اطلاعي على الوثائق وجدت أن القسم الغالب على هذه المحاضرات ما كان في قضايا أدبيّة ونقديّة عامة، وخلصت إلى الآتي: * وليس بمستغرب أن يحتلّ هذا النّوع من المحاضرات الصّدارة لأنّه الأنسب ربّما لهذا النّوع من المنابر التي نتوجه منها إلى جمهور غير متجانس، ولا يأتي إلى النّادي للحصول على معلومات في اختصاص بعينه. * وتبدو هذه الصّيغة العامّة أكثر ما تبدو في صياغات إحسان عبّاس، وحسن ظاظا، وشكري فيصل، وشكري عيّاد. * ومن المحاضرات ما يتطلّب رغم صبغته العامّة معرفة مسبقة ببعض الفنون والاختصاصات ليكون التقبّل ميسورا وحصول الفهم ممكنا.. يبرز هذا خاصة في محاضرة أحمد الشيباني، وعابد خزندار، وبكر باقادر، فثلاثتها تستلزم معرفة بعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة. ويمكن أن نضيف إليها محاضرة محمود الرّبداوي لأنّ الحديث عن الجمال شيء والحديث عن علم الجمال شيء آخر. * بعض المحاضرات على ما فيها من عموم تطرح قضايا في غاية الخطُورة، وكانت آداب أخرى وثقافات أخرى طرحتها أحيانا في مؤلفات مستقلّة كثيرة، كالتساؤل عمّا نريد من الأدب في الوقت الرّاهن؟ أو التنبيه إلى المضايق والاكراهات التي يعيشها الأدب والنّقد في عصر سيادة علوم أخرى لعلّها أكثر نجاعة وأوضح نتائج .. وهذه الأسئلة تؤشر عندما تطرح على التشكيك في جدوى الموضوع الذي ندرس والأزمة التي يعيشها. * من الموضوعات ما أدرج في هذا الجدول رغم ما يوحي به عنوانه من اختصاص ولكنني انتبهت إلى أن أسلوب الطّرح لم يتوغّل في دقائق ما تقتضيه من تفاصيل ونموذج ذلك المقارنة بين العروض والموسيقى بحثا عن العلاقة الرّابطة بينهما. * وأخيرًا ألاحظ وجود موضوعات ناتجة عند أصحابها عن حيرة أتت من التقاء ثقافة نقدية قديمة وثقافية حديثة، فوقعت المراجعة وظهرت الرغبة في إعادة قراءة التّراث؛ مثال ذلك موضوع مصطفى ناصف، ومنذر عيّاشي، وعالي القرشي. ويأتي بعد ذلك القسم المتعلّق بما يمكن عنونته بتاريخ الأدب وفيه وجدت أن الاهتمام قد انصبّ في عدد من المحاضرات على أدب البلدان. وبعضها تناول الظّاهرة في عمومها دون تحديد للجنس الأدبي أو الفترة الزمنية، وبعضها الآخر تناول أدبا بعينه في عمومه، ولكن في فترة زمنية محدّدة، وجاء الحدّ في بعضها مضاعفا حدّ بالجنس وحدّ بالزّمن. ومثال النّوع الأوّل محاضرة راضي صدّوق، ومثال النّوع الثاني محاضرة أحمد الشامي، ومثال النّوع الثالث محاضرة سحمي الهاجري، ومحمد العروسي المطوي، ونور الدين صمّود. ومن تاريخ الأدب دراسة شعر الشعراء على ضوء غرض معيّن، أو مسألة تُعنى بعلاقة في تجارب الشعر الأخرى أو في العلاقة بينه وبين بعض أدباء عصره أو سياسيّيه فالعلاقة المشهورة بين ابن عبّاد وابن تاشفين علاقة يكتنفها كثير من الغموض، وتختلف بشأنها الرّوايات وهو ما قد دفع أحمد النعمي إلى أن يصوغ عنوانه ب «القول الفصل» وهو صيغة أخرى ل«فصل المقال»، وعاد المحاضر نفسه إلى الشعر القديم ليدرس ما في شعر الشعراء الصعاليك من أبعاد جماليّة تخصّ كيفيّة القول أساسا. ولمّا كان شوقي من شعراء الإحياء واعتادت الدّراسات على اعتبار الإحياء مفتتح التجديد في الشعر الحديث خصّص عبد الحكيم حسّان محاضرة عن (مكانة ...) وفي نفس السياق، ولكن مع اختلاف في الشاعر واختلاف في زاوية النظر، بحث علي البطل عن عناصر الحداثة، لا التجديد، في شعر عبد اللّه البردوني. كما خصّصت محاضرات للرّافعي وزكي مبارك والعوّاد. ولئن كانت المحاضرات التي تناولت الوضع الأدبي في بلد من البلدان في عمومه أو تناولت جنسا أدبيا مخصوصا كالشعر والقصة والقصة القصيرة، محاضرات تفيد لاشك الجمهور الأعظم من النّاس لما فيها دائما من صيغة إعلامية تعريفيّة، فانّ المحاضرات التي تناولت شعراء معينين من زاوية نظر مخصوصة لا تهمّ الجمهور الأعظم بالضرورة وإن كان لها والحقّ يقال جمهورها هي أيضا. فالرّافعي ومعاركه الأدبيّة، وقسوته على خصومه في المعارك، وكتابته عن إعجاز القرآن قد يستنفر جمهورا يستهويه هذا النّوع من الأدب وقل الشيء نفسه في زكي مبارك. وأغلب المحاضرين في هذا القسم من السّعوديين أو من غير السّعوديين المقيمين بالمملكة أو المدعوين من الخارج . وقد حظيت مناهج النّقد بنفس الكمّ من المحاضرات الذي حظي به تاريخ الأدب. وقد لاحظت الآتي: * باستثناء المحاضرة عن مناهج النقد عند حازم، تبدو كلّ المحاضرات الأخرى على صلة بمناهج النّقد الحديث سواء في ذلك ما تناول المسألة من زاوية نظرية، أو الذي تناولها إجراء وتطبيقا. فمحمّد الشنطي لا يتناول القصّة السّعودية وإنما يتناول لغتها، والاتجاه اللغوي في النقد الحديث معروف خصّه سعد مصلوح بأولى المحاضرات، كذلك كانت قراءة محمّد فتيح لأدب طه حسين فهي «قراءة لغوية». كما تجدر الإشارة إلى أنّ عزالدين إسماعيل أتى إلى النّادي في مناسبتين متباعدتين وألقى محاضرتين تحدث في الأولى عن النّقد الجمالي عامّة وتناول في الثانية جماليات القصيدة العربيّة، فبعد التأسيس النظري، بناء على جماليات منتصف القرن الماضي، راح يطبق ذلك (أو يستفيد منه) على القصيدة العربية. وإذ تعلّق الأمر بقضايا دقيقة وجديدة فإنّ المحاضرين أصبحوا حريصين على سلامة النظرية وسلامة أدائها أكثر من حرصهم على الجمهور. يبدو ذلك خاصّة من عناوين محاضرين صلاح فضل وعبد السلام المسدّي ، واحد يتحدّث عن «إشكالية المنهج» والآخر عن «الأصول المعرفية». * كثير من المحاضرين في هذا القسم أسماء ساهمت في التحديث النّقدي مساهمة واسعة، وبعضها أصبحت مؤلفاتهم مراجع تعتمد كصلاح فضل والغذامي والمسدّي وسعد مصلوح وقبلهم عز الدين إسماعيل. * المساهمات الأجنبية في هذا القسم غالبة وللأمر دلالتان على الأقلّ: تفاوت حظوظ البلدان العربية من التجديد في النقد والفكر، في البدايات على الأقل، وحرص النّادي على وضع المثقف السّعودي على صلة بهذه الحركات. * الجمع بين النّظر والتطبيق مظهر مفيد ويؤكّد ما كان لوحظ في كلّ التعليقات من أنّ الغاية البعيدة من التحديث هو إعادة قراءة التراث واستحضار عناصر فيه. .. نواصل