برزت العديد من المرئيات والأصداء أثناء كارثة جدة الأخيرة، والتي تخاطب هذا الحدث الجلل، أو تحاول التماس الحلول، وتهدف إلى إبداء المقترحات تارة، أو الاعتراضات والنقودات تارة أخرى. والحقيقة أن هذه الكارثة هي مشكلة فكرية صميمة قبل أن تتموقع على الأرض، فكارثة جدة ناشئة -في الأصل والأساس- إلى أخطاء مؤسساتية وإدارية ووظيفية، وناتجة عن تخلف البنيات الإدارية والمؤسساتية وتراجعها، وذلك قبل أن تكون الكارثة بيئية أو جغرافية بحد ذاتها؛ فالعامل الطبيعي والمناخي كان بالمقدور أن يتم التصدي له أو التعاطي معه بجدية وعقلانية صارمة، ولكن كان التعاطي معه هزيلاً وغير جاد، ومن ثم نشأت هذه الكارثة التي لا نزال نعيش أصداءها المدوية والمريعة حتى لحظة كتابة هذه المقالة. ونظراً لأن المقال فكري فإنه سيُعرض عن التطرق عن الآثار الواقعية وسيكتفي بالسبب الفكري، ليس لأن الآثار الواقعية هي غير مهمة ولكن لإيمان كاتب هذه الأسطر بأن تناقضات الواقع ناجمة عن تناقضات الفكر الإداري والمؤسساتي لدينا. إن هذا التناقض المؤسساتي المتمثل في ضعف الأدوات النقدية والتصحيحية والتصويبية أدى إلى وقوع مثل هذه الكوارث التي كان من الممكن، وبسهولة، أن يتم تحاشيها وتلافيها دونما إضرار بمصلحة المواطن التي هي فوق كل مصلحة. هذا التخبط في الفكر المؤسساتي، وهذا الفساد المنتشر في مؤسساتنا ومنشآتنا وحتى في وزاراتنا، مردّه إلى كون الأداة النقدية ضعيفة وقاصرة وليست بقادرة على التصدي بشجاعة لهذه الأخطاء المتراكمة منذ عقود طويلة، والمعلوم أن الخطأ يعضد الخطأ ويشد من أزره، وهذه هي مُعاكسة طريفة لمقولة ابن رشيد الشهيرة (الحق لا يضاد الحق ويشهد له)! وبما أن النقد للمؤسسات الإدارية هو نقد هش ومتواضع (لأسباب متعلقة غالباً بالقوة والنفوذ والسلطة) فإن هذه الأخطاء تترعرع وتنمو في كنف الفساد الذي هو بالأصل فساد مبدئي في تكوين الهيكلية المؤسساتية، نظراً لأنها هيكلية لا تؤمن بوجود رقابة خارجية وتحتسب الأمانة والكفاءة في أي شخص يستلم منصبه، والمعلوم أننا حتى لو أحسنّا الثقة بالشخوص فإن هذا غير كاف بالطبع، إذ يجب أن يُضاف للرقابة الذاتية (الداخلية) رقابة أخرى (خارجية) تكون بمثابة الناقد والمصحح والموجّه للأداء الوظيفي، بيد أن هذا الأمر لا يكاد يوجد وإلا لما وقعت الواقعة، وحتى وإن وُجدت مثل هذه الرقابة فإنها لا تعدو عن كونها رقابة صورية وشكلانية، بل إنها في مثل هذه الحالة تتحول إلى (رقابة تحتاج لرقابة!) لأنها رقابة أخفقت في أداء مهمتها بدليل وقوع هذه الكارثة المشؤومة، كارثة أنبأت وأعلنت عن تهاون وتسيب لا مثيل لهما، وأظهرت تهاوناً بأرواح المواطنين والمقيمين فضلاًَ عن دمار الممتلكات العامة للدولة والممتلكات الخاصة للأفراد. إن الإدارة -أية إدارة كانت- هي إدارة لجهاز ما، هذا الجهاز موجود لأغراض وغايات محددة ومرسومة بدقة، وإذا ما كانت الإدارة تهدد هذا الجهاز فإنه من الواجب أن يتم استبدالها بإدارة أصلح وأفضل منها، ويكون نقد هذه الإدارة منوطاً بأدائها الذي يجب أن يتوافق ويتماشى مع الغايات التي لأجلها تم إنشاء هذا الجهاز أو ذاك. فلو أنني جلبت مدرباً لفريق لكرة القدم بغرض أن يصعد بالفريق إلى ترتيب ممتاز، ولم يحقق هذا المدرب مثل هذه الغاية المنشودة، فإنه يحق لي أن أقيله من منصبه وأستبدله بمدرب آخر يحقق لي مثل هذا الهدف، إذن فالمعيار الذي لأجله أقيل أو أبقي على هذا المدرب هو معيار (النصر والتقدم). ومثل هذا المعيار يمكن تعميمه على أكثر من جهاز إداري: فالمدير، والموظف، والكاتب، والمراسل، والنائب، هي كلها مسميات إدارية لا تسمن ولا تغني من جوع إذا لم تقم بتحقيق أهداف معلومة وموضوعة، بل إن هذه الوظائف والمناصب تتحول إلى عائق أمام الإدارة نفسها، وتصبح حاجزاً، وسداً منيعاً، أمام التنمية الإدارية، فبقدرة قادر يمكن لهذه المناصب أن تتصنّم وتتعملق، لتكون كابوساً يُؤرق منام أية إدارة! ولا يغيبنّ عن البال أن المنصب والشهرة والجاه والمال هي عوامل أدت إلى تغييب العقل الإداري, فجعلته عقلاً منقاداً إلى القشور والهوامش على حساب الأداء الحقيقي والإبداع العملي في أروقة المؤسسات، بل لقد تم نسف وتهميش الغايات الأساسية التي لأجلها أنشئت المؤسسات والمرافق، واستبدلت هذه الغايات العليا بغايات صغرى تتعلق بمصالح الأفراد ورغباتهم الشخصية ومطامحهم التي تصطدم في كثير من الأحيان مع المصلحة العامة، وهنا ينبغي أن يتم التفريق بين الطموح الشخصي الذي يرفع معه مطامح أخرى نبيلة وعمومية تتعلق بفائدة الفرد والمجموع معاً، ونقيضه وهو «الطمع» الشخصي الذي ينسف مجهودات كثيرة ويبدّد مساعي جمّة للرقي بعالم الإدارة والتنمية الإنسانية. فهل من صحو لتثاؤبنا الإداري؟ وهل من نزعة نقدية شاملة ومنهجية تغربل كل هذا الركام من الأخطاء؟ هذا ما أتمناه ويتمناه معي كثير من المتابعين والمهتمين .