لئن كانت كارثة سيول جدة الأخيرة قد حركت الجهات المسؤولة بحثًا عن أوجه القصور التي أدت إليها، وأثمرت عن تكوين لجنة لتقصي الحقائق ومحاسبة المقصرين، فإنه في المقابل أظهرت جانبًا إيجابيًّا تمثّل في حركة المتطوعين الذين هبّوا لنجدة المتضررين، بشكل -مع إيجابيته- افتقد لعنصر التخطيط والتوجيه.. وقد خصصت أحدية الدكتور أنور عشقي جلسة منتداها يوم الأحد الماضي لمناقشة «الأعمال التطوعية ودورها في الأزمات والكوارث» بمشاركة نخبة من المثقفين والمفكرين.. حيث ابتدر الجلسة الدكتور عشقي واصفًا ما حدث والجهود التي بذلت لاحتواء الأزمة بقوله: كارثة جدة كانت من الكوارث التي لم يعرف الشعب السعودي لها مثيلاً، إذ اندفعت مياه السيول إلى الأحياء السكنية من شعبية وحديثة فكانت المأساة أشد على الأحياء الشعبية إذ هدمت البيوت وتشرد السكان.. عندما ظهر دور الأعمال الخيرية الرسمية وغير الرسمية، لكن مبادرة خادم الحرمين كانت إيذانًا بالتحرك الخيري والرسمي، فقد عبّر عن ألمه وحزنه على ما حدث، ولم تمنعه مشاعره كقائد استراتيجي من تحمل المسؤولية فأمر في الجانب الإنساني بإسكان المتضررين في شقق ومساكن وقدم لأسرة كل شهيد مليون ريال دون تفرقة بين مواطن ومقيم، أما في الجانب الإداري فقد شكّل لجنة برئاسة أمير منطقة مكّة المكرّمة وعضويّة من الوزارات الرقابية المختلفة التي حددها للتحقيق في القضية وتقصي الحقائق وتحديد المسؤولية التقصيرية وغير التقصيرية.. ومع أن الجهات الرسمية قد بادرت بالعمل في منطقة الكارثة حال حدوثها إلا أن الأعمال التطوعية تضاعفت في أعقاب المبادرة الملكية، فخرج الشباب والشابات من موقع الحدث لكن الجهات الرسمية حاولت جهدها تنظيم هذا العمل.. عشوائية وتنظيم مفقود ويضيف عشقي: إن المملكة العربية السعودية حديثة عهد بتنظيم التطوع الجماعي، مما جعل هذا العمل يتّسم بالعشوائية أحيانًا، كما أن الجمعيات الخيرية افتقرت إلى التنظيم والإدارة؛ لهذا نجدها تعمل دون خطة واضحة ومشتركة؛ ولابد بعد اليوم ان نكون مستعدين لمواجهة الازمات الانسانية، حتى تتمكن الجمعيات الخيرية من أداء دورها بأسلوب صحيح دون أخطاء أو سلبيات، وهذا ما يساعدها على النجاح في تحقيق أهدافها، لهذا فإننا مطالبون بالتنظيم كي نواجه التحديات الصعبة والمحتملة، فنحن اليوم في عصر تضاعفت فيه الكوارث والأزمات؛ ولابد من إدارتها إدارة صحيحة، ولعل الجهة الأولى المسؤولة عن هذا العمل هي مؤسسات العمل الخيري التي لا يتركز دورها على الكارثة أثناء وقوعها فحسب؛ بل قبل الوقوع بالتحسّب لها وبعد الوقوع بإدارتها والتقليل من أخطارها في الأوقات الحرجة. أساليب علمية ويمضي عشقي في حديثه مشيرًا إلى الأوجه السليمة المتبعة في إدارة الأعمال التطوعية قائلاً: من الأساليب العلمية المعتمدة علميًّا في العمل الخيري وجود فريق دائم لقيادة الأزمات والكوارث، وهذا الفريق تتراكم لديه الخبرات والتجارب حتى لا تبدأ هذه الجمعيات من الصفر، كما يتطلب العمل الخيري تحديد أشكال وأنواع الأزمات والكوارث المتوقعة والتحسب لها، وهذا يعني وضع خطة لمواجهة كل نوع من أنواع الأزمات؛ مثل الزلازل والبراكين والفيضانات والطوفان والتصحر والجفاف؛ وهنا يجب توفير جميع مستلزمات الخطط من مادية ومعنوية وطاقة بشرية، بالإضافة إلى البروفات والسيناريوهات، مع التدقيق الدوري على الخطط والمواد، والتأكد من حسن الصلاحيات، وليكن ذلك كل ستة أشهر. ويحسن بفريق إدارة الكوارث والأزمات إقامة الدورات التدريبية، والمشاركات فيها لتفكيك التفاصيل الدقيقة، ومتابعة ما يستجد من المعدات والتكتيكات، وعلى المؤسسات الخيرية دراسة الواقع واستشراف المستقبل لتكون قادرة على التعرف على علامات الخطر المبكر. أما القائمون على إدارة الأزمات فعليهم أن يتمرسوا على فنون ومهارات التعامل مع الإعلام، الذي أصبح يشكّل جهازًا من أهم الأجهزة في الإزمات والكوارث، وهذا ما افتقدناه في التعامل مع كارثة جدة، فهو سلاح ذو حدين، فإهماله قد يضاعف من وقع الأزمة على المتضررين؛ خاصة الجانب النفسي، وقد يكون سببًا للتخلّص من الأزمة إذا أُحسن استخدامه. سرعة مطلوبة ويتابع الدكتور أنور حديثه مضيفًا: إن على القائمين على إدارة الأزمة النظر في السبب الأساسي الذي أدى إلى نشوئها، ومن ثم التركيز على العلاج اللازم لإفرازاتها، وهذا ما قام به خادم الحرمين الشريفين؛ لأن الأزمة قد تُفجّر أزمات أخرى مما يصرف الجهد عن المشاكل الرئيسية والتوجه نحو المشكلات الفرعية. ويختم عشقي بالتأكيد على أن السرعة في اتخاذ القرار يعتبر من أهم متطلبات إدارة الأزمة، لهذا يجب على القائمين على إدارة الأزمة التمرس على حسن اتخاذ القرار وتقدير الموقف الذهني واتخاذ الإجراءات اللازمة. مساهمة هيئة الإغاثة الإسلامية عقب ذلك قدّم الدكتور عبدالله فالح مدير عام الرعايات والبرامج في هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية شريطًا تعريفيًّا بالهيئة ودورها في الداخل والخارج، مشيرًا إلى ما قامت به في العديد من البلدان العربية والإسلامية التي تعرضت للكوارث والأزمات. منتقلاً بحديثه من ثم إلى دور الهيئة في كارثة سيول جدة في العام الماضي بقوله: في إطار جهود الهيئة المبذولة لمساعدة المتأثرين من كارثة سيول جدة التي حدثت في نهاية العام المنصرم قامت بتخصيص مبلغ 10 ملايين ريال بصورة مبدئية وفقًا لاحتياجات المتضررين من خلال العمل الميداني، كما قامت بتوزيع كميات كبيرة من الملابس والمواد الغذائية، وافتتحت (4) عيادات طبية لتوفير الخدمات الصحية لكل المتأثرين من السيول في جدة بالتعاون مع الشؤون الصحية بمنطقة مكةالمكرمة، وزودتها بكل المستلزمات الطبية والكوادر البشرية. وتكفلت الهيئة بكفالة جميع الأيتام الذين أفرزتهم تلك السيول التي اجتاحت بعض الأحياء المتفرقة من المحافظة، وتعد العدة لتوفير فرص تدريب الأمهات (الأرامل) في المعاهد التدريبية المعتمدة وفق رغباتهن واستعداداتهن التي تعينهن بعد المولى عز وجل في توفير لقمة العيش لأنفسهن ولأبنائهن وبناتهن، كما أن الهيئة بصدد إعادة تأهيل 500 منزل دمرها السيول وستليها العديدة من المراحل المرتبطة بموضوع التأثيث للمزيد من المنازل المدمرة. بجانب تنفيذ حملة لتأمين مواد إغاثية للمتضررين من السيول والأمطار في نجران وأهالي منطقة الخرخير بالجنوب، وقرى الفارعة، جازان، بيشة، ورهاط، ورابغ، وبدر، ينبع، تبوك، المدينةالمنورة ومحافظة جدة. ونفذت حملة إغاثية في محافظة الليث من 21 رمضان 1429ه لمدة شهر شملت (170) قرية وهجرة استفاد منها أكثر من (200.000) فرد. تجربة فريدة الناشطة في مجال العمل سعدية الوافي والتي أسهمت في تحويل 4500 أسرة في الأحياء الشعبية من أسر كانت تتسول، إلى أسر منتجة، كانت أيضًا من طلائع المتطوعين إبان كارثة سيول جدة، وحول تجربتها في هذا المجال قدمت فيلمًا قصيرًا أظهرت حجم الدمار الذي شهدته مدينة جدة والجهود التي بذلت من قبل المتطوعين لتلافي ما يمكن تلافيه.. ثم تحدثت من ثم قائلة: تجربتي كانت في منطقة غليل، وقد أنجزت دراسة كاملة عن الأحياء العشوائية هي 12 حي، وركزت على منطقة غليل بالتحديد، ثم قمت بعمل إحصائيات محددة أظهرت المشاكل التي يعاني منها هذا الحي كما تظهره بعض الصور الموجودة في نفس المنطقة، فكانت هناك عدة جرائم ترتكب، وكنت أسمع آراء كثيرة ومقترحات كثيرة من الأسر حول البرامج التي صممتها، كنت أسعى أن أقف على حاجة هذه الأسر وما يفيدها، فقد كان أهم شيء يشغلني أن أنجز تنمية وتطويرًا في هذه الأحياء، وقد ساعدني والأفراد أنفسهم فكانوا يعملون معي؛ لأن هذا كان هو الأساس عندي، لأنه كان من الصعب أن أدعو ناس من حي السلامة أو الشمال مثلاً ليعملوا معي في منطقة غليل. وقد واجهتني مشكلة تمثلّت في أن بعض السيدات كن يرغبن في العمل لكن الظروف الاجتماعية والأسرية كانت تحول دون ذلك متمثلة في رفض أزواجهن وآبائهن العمل في مناطق بعينها، مما دفعني إلى الاستعانة بأفراد من الحي نفسه. مظاهر سالبة وتمضي الوافي في حديثها عارضة نماذج من المعاناة التي واجهتها الأسر في كارثة جدة والمجهودات التي بذلت من قبل مجموعتها لمعالجتها قائلة: إزاء كثير من المظاهر السالبة التي رافقت الكارثة فكرنا في عمل برامج للسيدات؛ فقمنا بعمل برامج للمراهقات حتى السن المتوسط، مع تركيز أكثر على العمل الفردي مراعين فيه المكان، فكانت البرامج داخل الأحياء؛ بل داخل البيوت ولم تكن في مراكز خارجية.. فقد كنت آخذ السيدة التي تتسول في الشارع عندي، وأستأجر غرفة عندها في البيت، وأدفع لها (500) ريال على أن تشرف على الموجودين الذين يتدربون عندها في البيت مقابل 500 ريال للأكل والشرب و(500) ريال أخرى للتدريب، ليكون المجموع الذي تحصل عليه (1500) مما يغنيها عن التسول. ولله الحمد فتحنا خمسة مراكز داخل هذه البيوت. وتختم سعدية حديثها قائلة: ما لحظته في حي قويزة بوصفه من الأحياء التي تضررت كثيرًا من السيول والأمطار أن الأعمال كانت تسير في الحي دون أن تكون هناك أي مشاركة من أهالي هذا الحي، فلم يبرز منه متطوعين، فكل الجهات التي كانت تعمل في هذه الأحياء وفي منطقة قويزة هم شباب متطوعون. أما بالنسبة للهيئات والجمعيات التي شاركت فقد أستأذناها في العمل تحت رئاستها، ولذلك واجهتنا كثير من المشاكل في العمل الميداني وهي كثرة الآراء، فأنا كنت أعمل تحت جمعية البر، وزملاء آخرين كانوا تحت الجمعية النسائية الخيرية وأصدقاء المجتمع، وكنا نتضارب في الآراء لأنهم في الأصل لم يضعوا إدارة كاملة للعمل التطوعي الداخلي. فلم تكن هناك إدارة واحدة منهجية أو إدارة مختصة فيالكوارث. جهود وافرة أما المستشار الاجتماعي إحسان طيب فقد انتقد في حديثه الجهات الحكومية في إدارة الأزمة الأخيرة في الجانب التطوعي، مشيدًا في الوقت نفسه بالجهود التي بذلها أهالي جدة والشباب المتطوعين، مؤكدًا أن الجهات أكثر مما جاء في حديث الناشطة سعدية الوافي، داعية الجهات الحكومية لتقنين عمل الجهات الطوعية حتى يكون لمجهودها الذي تقوم به أثر ملموس وواضح بتوجيهه الوجهة الصحيحة وتسخيره بطريقة منهجية، وإدارة مؤسسية واعية. كذلك شهدت الأمسية العديد من المداخلات حول موضوع العمل التطوعي، وسيل تطويره شارك فيه الدكتور محمد خضر عريف، خالد المحاميد، وفهد الشريف، والدكتور إبراهيم شقدار، والدكتور يوسف العارف، وآخرين.