كنت أتمنى أن أمسك القلم لأكتب رسالة إلى أخي وزميلي العزيز السفير أسامة بن عبدالحميد كردي أقول له فيها كم أحبه وأقدره واشتاق إليه فإذا بي أمسك القلم لأرثيه وبدل الحبر اكتب بالدمع والحزن واللوعة على فراقه. صدق جبران خليل جبران حين قال: «المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق»، والحقيقة أنني أكن لأخي أسامة حباً أخوياً كبيراً وتقديراً جماً لكنني لم أدرك مقدار هذا الحب وعمقه سوى الآن حين لم يعد صوتي يصل إلى مسامعه ولا تقرأ عيناه كلماتي، فيا ليتني قلت له ذلك قبل الرحيل.. لكن أتراه رحل عنا ليعرف كم نحبه؟!.. بالأمس ترجل أسامة عن صهوة جواده بهدوء بعدما أكمل مسيرته إلى جانب ابنته الوحيدة خلود التي نذر عمره للبقاء إلى جانبها فإذا به يفي بالنذر حتى الرمق الأخير ويرحل بعدما اطمأن إلى أنه وفّى الأمانة وسلم المشعل. يا أخي أسامة.. أناديك حيث أنت وأحاول أن أمسك يدك وأن اقبل جبينك أيها الصديق الصدوق والأخ الغالي.. أناديك بنبضات قلبي لأن الكلمات لم تعد تكفي لتعبر عن حزني.. أناديك لأقول لك إن ذكراك ستبقى في وجداني ما حييت لأنك كنت مثال الأخوة الحقة والصداقة الحقيقية كما كنت نموذجاً للحب الأبوي والرجال الصالحين. أردت يا أسامة أن تعرف كم نحبك فها أنت عرفت بعدما أصبحت في دنيا تتكشف بها الأستار والحجب، لكن ما لم تعرفه هو أن حبك سيزيد في قلوبنا يوماً بعد يوم مع ازدياد اشتياقنا إلى رؤيتك وصحبتك. رحمك الله يا أخي رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته ولعائلتك الكريمة من بعدك الصبر والسلوان. ذاك هو أسامة.. عرفت أسامة كردي لمدة خمسة وعشرين عاماً حيث تشرفت بمزاملته في إدارة أمن الممثليات السعودية في الخارج بوزارة الخارجية. أحببت فيه رقيه وشخصيته الهادئة التي تجمع التميز والحكمة إلى جانب حبه لوطنه وقيادته وإخلاصه لعمله ولعل أرقى ما فيه صفاته الإنسانية حيث لم يكن يحب الظلم ولا التواني في ردعه وينظر لجميع من كان يرأسهم بعين العدل والأخوة، وأسمح لنفسي أن أكشف عنه سراً وهو انه كان يخصص جزءاً من راتبه لمساعدة المستخدمين في الإدارة ولا يدع يده اليسرى تعرف ما تفعله يده اليمنى. تميز أسامة في حبه لأسرته فكان مثال الزوج والأب وكان مقتنعا في قرارة نفسه أن العائلة هي عماد المجتمع والأسرة أغلى ما في الوجود فجمع بنظرته إلى أسرته حبين، حب الوطن وحب الأب، وأذكر من هذا المنطلق أنه وقف إلى جانب زوجته لإكمال دراستها العليا فأجادت ونالت درجة الدكتوراة بامتياز وأصبحت تشارك في التنمية التعليمية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين بعدما أصبحت عميدة لإحدى كليات البنات. وما قام به مع زوجته أعاده مع ابنته الوحيدة خلود حيث وفر لها الحنان والرعاية ولشدة تعلقه بها وسهره على مستقبلها كان يحدثني عنها دائما وعن دراستها وكيف انه يترك توجيهها لوالدتها. وأراني هنا اكشف سراً آخر عن أسامة وهو انه ضحى بكثير من الفرص التي عرضت عليه في الخارج ليكون سفيراً لخادم الحرمين الشريفين إلا أنه كان يعتذر بلطف مفضلا البقاء إلى جانب أسرته في الوطن الذي أحب، ليوفر لزوجته وابنته الرعاية والعلم قبل أن يغادر إلى الدار الآخرة. وعن أسامة المؤمن ماذا عساي أقول؟ كان رحمه الله يولي دينه اهتماماً بالغاً سواء في احترام مواقيت الصلاة أو التردد على المساجد أم عنايته بالفقراء والمرضى وزيارة الأماكن المقدسة سنوياً ولعل أسمى ما كان يقوم به هو عنايته بوالدته رحمها الله حيث كان يحيطها بعناية كريمة أنالته بركتها ورضاها. كيف كان الفراق.... تلقيت اتصالاً لم أكن أرغب أن أتلقاه. لم اصدق ما قاله لي الموظف السوداني عبدالرؤوف الذي كان يعمل معنا أن أسامة كردي فارق الحياة.. كان صوت عبدالرؤوف متهدجاً وإذا به يبكي ويحاول إبلاغي النبأ بصعوبة فتهرب منه العبارات. حاولت تهدئته لأعرف تماماً ماذا حصل لكني لم أتمالك نفسي ورحت ابكي معه وبطريقة لا واعية رحت ابحث عن رقم هاتف شقيق أسامة حسين كردي لأتأكد منه عن صحة الخبر لأن أسامة كان بصحة جيدة، وكم كان هذا التأكيد قاسياً عليّ إذ شعرت أن جزءاً مني قد رحل. كان أسامة يهم في مغادرة أحد الفنادق في دبي وإلى جانبه ابنته خلود فإذا به وهم في المصعد يبلغها أنه يشعر بإعياء فهرعت المسكينة لإحضار السيارة لنقله إلى المستشفى وحين عادت كان أسامة قد فارق الحياة. لم يشأ أن يحمّلها قسوة تلك اللحظة وأن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها ففضل أن يغمض عينيه وحيداً وهما تنظران إلى وحيدته الغالية النظرة الأخيرة. فليرحمك الله يا أسامة.. * سفير خادم الحرمين الشريفين في لبنان