امتلأت الساحة الإعلامية في بلادنا بالعديد من الكتابات حول ما حدث لمدينة جدة من كارثة مأساوية ، وأدى حجم الكارثة إلى تفاعل جماعي امتد باتساع الوطن وبصور متنوعة ومعبرة وجدانية واجتماعية وثقافية تتناسب مع خطورة الحدث وما نتج عنه من فاجعة وخسائر بشرية ، وأخذت الأقلام تتوالى بين توصيف وتحليل ، ونظرات شد وجذب ، وتفاوتت الآراء في تناولها للحدث بين موضوعي متزن ، وعاطفي متأثر بما حدث ، ومهمش لما حدث ، ومستغل للحدث لأجل قناعات أو مصالح ، لذا اختلفت الآراء من حيث مدى قربها من فهم واستيعاب الكارثة وما تحمله من دلالات وأسباب وخسائر ومؤشرات ، فمن الآراء من يحاول الغوص في لب المشكلة والتوصل لمعرفة دقيقة بتفصيلات الكارثة ، ومن ثم تقديم رؤية واضحة قدر الإمكان ، ومن الآراء من يركز على جانب واحد من الكارثة ويتحاشى جوانب قد تكون أهم مما تطرق إليه ، ومن الآراء من يحلق بعيدا عن الحدث وكأنه يتحدث عن شيء مختلف يلاقي هوى في نفسه ،ومن أمثلة ذلك من يستغل الحدث لتمرير قناعات شخصية لديه متخذا ما حدث ذريعة لتقوية تلك القناعات . وإذا كان من الضروري الإحاطة التامة بجذور المشكلة وما أدت إليه من كارثة شهد تفاصيلها الجميع ونقلتها قنوات الإعلام حتى أحس بها من هو بعيد عن مكان الحدث ، فإن ذلك الهدف المعرفي على قدر أهميته لا يتحقق سريعا وبشكل كامل من خلال تأثرات مؤقتة ومتابعات قليلة وكتابات عابرة، بل هو يحتاج إلى دراسة وتحقيق تفصيلي وجهود مكثفة ، وذلك لأن الكارثة حدثت نتيجة لعدة أسباب تراكمت في أكثر من مناسبة وموقع وجهة دون حل جذري ، فمنها : أسباب تخطيط تتمثل بعدم وضوح أهداف حالية ومستقبلية لمختلف المشاريع ، ونقص الدراسات اللازمة قبل التنفيذ ، وتنفيذ عشوائي لبنى تحتية ، وضعف في متطلبات الخطط ، وعدم التنسيق بين الجهات المعنية قبل اعتماد الأعمال وتنفيذها ، ومنها : أسباب إدارية تتمثل باللامبالاة وعدم القيام بالمسئولية ، وضعف الرقابة المالية ، كما أن هناك أسبابًا أخرى لا تقل أهمية منها ما يتعلق بأزمة العمران والبيئات السكنية ، ومنها أسباب تتعلق بخطط الطوارئ وما تتطلبه من تجهيزات وخبرات ، ومنها ما يتعلق بالعقبات البيئية الأساسية وتركها دون تحديد ، ومنها أسباب تتعلق بتنظيم ووضع سوق العمل وما فيه من مقاولات ومشاريع يتم تنفيذها دون ضوابط ، وكل سبب يحتاج لجهد مستقل ولبرنامج عمل مكثف ينقله من وضعه كسبب إلى التحكم به ضمن إدارة ناجحة ،وقد تحدث ظروف طبيعية تتحدى التخطيط والتحكم البشري وخطط الطوارئ ومنها على سبيل المثال موقع جدة على ساحل البحر مما أدى إلى زيادة معدل المياه وما تبعها من زيادة أضرار ، إلا أن مجابهة الظروف الصعبة وتجنب الأضرار وتخفيض الخسائر بنسبة كبيرة يتم بنجاح عوامل أساسية ، ومنها : التخطيط والتنظيم ، والإشراف الفعال ، وتحمل الأمانة والمسئولية ، وإدارة الأزمات بإحكام والاستعداد بأفضل خطط طوارئ ، ومن هنا كانت أهمية القرار الحكيم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله بتشكيل لجنة تعمل لتجلية جميع ما يتعلق بالكارثة وترسيخ مبدأ المسئولية الوطنية ونهج المحاسبة لتقصي أسباب ما حدث من كارثة أولا ، ولوضع ما يتناسب معها من قرارات ثانيا ، ومن الممكن لاحقا الاستفادة من نتائج أعمال اللجنة لكي لا يتكرر ما حدث في مختلف المناطق ، وما يتطلع إليه المواطن ويؤمله هو ما ينبثق عن تلك اللجنة من نتائج وقرارات يتم تطبيقها على أرض الواقع ، بالإضافة إلى أهمية بلورة ما تتوصل إليه اللجنة من نتائج من أجل ترجمته إلى خطط ناجحة وإدارة فاعلة للأزمات .