وقفتُ حيرى أمام هذه الكارثة، التي حلّت بمدينة جدة وأهلها.. هل أكتبُ مقالاً أرثيها، وأرثي مَن فَقَدت؟ غير أني وجدتُ أن حجم المأساة تعجز عن تصويره أكبر مفردات الرشاد، وأعمقها معنى، هذا أولاً، وثانيًا أن علينا في عصر المآسي هذا أن نتعلم فن رياضة القفز على الآلام، إذ لا وقت للعواطف والأحزان لشدة تعاقبها وتلاحقها، فمآسي اليوم ومصائبه يأخذ بعضها برقاب بعض، فلو أننا استسلمنا لها، فإننا حتمًا سنُصاب بحالة اكتئاب حادة.. وأمام هذه النكبات اللاهثة علينا أن نُعمل العقل، ونفكر في كيفية تخطي المصائب، وكيفية تجاوزها بآمان عن طريق الحلول العملية؛ حتّى نتمكّن من ترميم ما تبقّى لدينا من صبر، إضافة إلى ضرورة التفكير فيما بعد المأساة.. أي نفكر في مستقبل المآسي، وما سوف يتولّد عنها من أزمات، مع طرح الحلول التي ينبغي أن يُعمل بها حتى لا نكون لعنة في فم الزمن، نسمع صداها من أفواه الأجيال القادمة، فتراكمات المآسي أشد من بداياتها. لقد هطلت علينا أمطار الخير والبركة، وهي أمطار خير على الرغم من الكوارث التي صاحبتها، لأنها كشفت المستور، وفضحت الضمائر الملوّثة، وربما كانت هذه الكارثة مؤشرًا إلى مآسٍ أخطر، ونذيرًا لنكبات أفظع، يجب علينا التيقظ لها، وأخذ الحيطة والحذر منها!! إنّ ما حصل في جدة أشبه بكارثة تسونامي، وكنا شاهدنا تلك الفاجعة التي أغرقت مدينة بكاملها، وشرّدت أهاليها، وحطّمت مبانيها، فدمعت عيوننا حزنًا، واعتصرت قلوبنا كمدًا على الأرواح التي حُصدت، ولم يخطر في بالنا يومًا أن تتكرر هذه الفاجعة، وأين؟ على أرضنا؟! غير أن الفرق أن فاجعة تسونامي كان سببها فيضانات هائلة، لا دخل للبشر في ردّها أو دفعها، مع ضعف الإمكانات المادية لتلك البلاد، فلم تنفق الدولة الملايين والمليارات على السدود والجسور، ومشاريع الصرف، أمّا تسونامي جدة فكان سببه الإهمال، وقلة الأمانة، والجشع البشع الذي زاد من تضخمه انعدام الرقابة والمتابعة، والفساد الإداري، كل ذلك حوّل غيث الخير والبركة إلى بُعاق هائج مائج، أصبح في ثوانٍ سيولاً جارفةً، فانقلب الخير إلى كارثة.. أربع ساعات مطر صيّرت جدة مركبًا مثقوبًا تتقاذفه أمواج السيول بلا رحمة، كيف لو هطلت الأمطار على جدة أربعة أيام بلا توقف؟ وقتها لن نرى أثرًا لطائر غير البوم، يحوم حول الجثث الطافحة.. جدة التي كانت عروس البحر الأحمر، يتغنّى بجمالها الشعراء، غدت اليوم أمًّا ثكلى، تنعى أبناءها الذين فَقَدتهم جرّاء الإهمال وعدم الشعور بالمسؤولية، وتبكي على الآخرين الذين فقدوا منازلهم، وأصبحوا بلا مأوى. لقد كنتُ شاهد عيان على بعض المشاهد التي جرت، فما إن توقف المطر حتى ظننتُ خيرًا بما قرأته في صحفنا، اليومية من تصريحات بعض المسؤولين عن مشاريع الصرف، وموافقتها لأعظم المقاييس العالمية؛ ما أكد لي أنني سأرى شوارع جدة كالصخرة الملساء التي لا يبقى على ظهرها قطرة ماء، فأيام غرق الشوارع قد اختفى، مع تلك المشاريع الضخمة التي استنزفت الملايين، وإنه بإمكان أي مواطن أن يقضي مصالحه الحياتية كما هو الحال في باقي الدول، فقيرها وغنيها، ممّن تنزل بها الأمطار لأيام، والثلوج لشهور، وحياة أهلها لا تتوقف. ولكن الحقيقة التي اكتشفتها أنني بثقتي تلك كنتُ في غاية السذاجة، فما إن سرتُ أمتارًا حتى أمست سيارتي كالمركب الغرق، ورأيت الناس حولي وقد وصلت الأمطار إلى ركبهم، بعد أن لفظت الأمطار سياراتهم على جانبي الطريق، وفي دقائق تحوّلت جدة إلى أكبر مدينة تشليح سيارات في العالم! كل هذا، وأعظم منه كالذي سمعته عن جسر الملك، الذي غاصت فيه السيارات بأهلها داخل نفقه؛ لعدم وجود تصريف، وكل هذا كان في أكبر شوارع جدة الشمالية، مثل شارع صاري، وعند دوار الفلك، وشارع الستين. والمصيبة الكبرى أنه لم يعد بمقدورك التراجع، فالمياه من أمامك، ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، ومن فوقك، ومن تحتك، فأخذتُ أبحث عن فتحات التصريف التي أقلقت بها الصحف منامنا، فوجدتها بعد عناء تحتاج هي إلى تصريف، فمعظمها قد سدُّت، وطُمرت قبل هطول الأمطار، وبعضها أُصيب بوعكة صحية، فأخذ يسترجع المياه من جوفه، مصاحبًا مياه الصرف الصحي معه في أعظم سيمفونية للتلوّث البيئي. كنتُ أحسبُ أن ما عاصرته هو الفجيعة الكبرى؛ حتى رأيت بالإنترنت ما حل بجنوب جدة، فأيقنتُ أن الطامة أعظم من المُتخيّل، وحجم المصاب فوق الإدراك.. وفي الصور المعروضة على النت غني عن الوصف والكلام، فهي تجسيدٌ حيٌّ للواقع المؤلم والمزري. وإن أشد ما يؤلم النفس تلك الأرواح البريئة التي ذهبت نتيجة الإهمال، ومن تلك الأرواح المربية الفاضلة (سناء أبو الغيث) التي جرفها السيل هي وزوجها وأبناؤها الأربعة وخادمتها، تغمّدهم الله جميعًا برحمته، وألهم أهلها وصحبها الصبر والسلوان، فقد كانت نقية السيرة والسريرة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، نعم.. كلنا يؤمن بالقضاء والقدر، ولكنَّ هناك أسبابًا تكون مهيأة للحوادث المؤلمة يجب أن يُحاكم ويُحاسب أصحابها، وعلى كل شخص متضرر في سيارته، أو بيته، أو دكانه، أو فقد أهله أن يرفع قضية تعويض على المتسببين. وللحديث بقية.