من الواضح أننا خُلقنا للعبور والفناء، وليس للبقاء والاستمرار، يبدو ذلك جليّا في نمط العلاقات الشخصية، فالارتباط مع الناس يتغيّر ويتجدّد باستمرار، ومن غير أسباب واضحة، فمن ملاحظاتي، أنّ معظم الأصدقاء والمعارف والرّفقاء، يتغيّرون دوماً خلال مدّة طالتْ أم قصرت، تبعاً لعوامل مزاجية ونفسية واجتماعية كثيرة، فالمدّة المعتادة للارتباط بأحدهم، لا تتجاوز عادة (5) سنوات، يتغلغل خلالها المللُ وسوء الفهم وعدم الارتياح، ثم ينسحبُ الأشخاص بصورةٍ تدريجية يُفضي بالعلاقة إلى شكلٍ غريب خليط من الاهتمام الجاف المُتباعد المتكلِّف، يظهر خلالها أو بعدها أناسٌ آخرون بشخصيّاتٍ جاذبة، وظروف وصورٍ مغايرة.. وهكذا. تكمن الأسبابُ خلف هذه الظاهرة -في رأيي- إلى التغيّر المطرد في أفكار الإنسان، وتطوّر شخصيّته وازدياد معرفته، وتأثره بكثير من التجارب الحياتية، وتعرّضه لشتّى أنواع الضغوطات الاجتماعية وتحمّله لمختلف أشكال الأذى والتعدّي، من خلال اضطراره للتعامل مع أفراد عائلته وأقاربه وزملائه وأفراد مجتمعه، واكتسابه خبرات معيشية تحدّد انطباعاته حول طبيعة العلاقات الإنسانية، وكيفية التعاطي المناسب معها. تتعرّض كثيرٌ من العلاقات الشخصية إلى اضطراباتٍ واختراقات، منها طغيان الأنانية وحبُّ السيطرة، واستمراءُ التملّك والاستحقاق، إضافة إلى الاستجداءِ العاطفي، واستنزاف الطاقة النفسية، والإصابةِ بمرض التعلّق، وارتفاع مستوى «العشم» والتوقّعات، والإفراط في حسن الظّن، فضلا عن المُعاناة من سوء التوافق الفكري والسلوكي، وهي كلهّا، إضافة إلى بعض المشكلات المادّية، تدفع بالعلاقات الشخصية تدريجياً، نحو هاوية الاستهلاك والفشل، وهذه بمنتهى البساطة، النهايةُ الحتميّة المُتوقّعة.. إنّ العلاقات الإنسانية، في غاية الضبابية والإرباك.. وفي كثيرٍ من الأحيان، السُّمّية والضّرر. تنشأُ العلاقاتُ المريحة المُنسجِمة، نتيجة التوافق الفكري والتجانسِ الروحي، والشعورِ المتبادل بالغربة التي يهوّنها أحدهم على الآخر، والعلاقة الناجحة، هي تلك التي يتمتّع أطرافها بأكبر قدرٍ من مساحة الحرّية الشخصية وحسنِ الظن المتبادل، وهي تقاس بمستوى الشعور بالطمأنينة النفسية.. وعمومًا، فالعلاقات الإنسانية السّطحية ذات الحدود الضيّقة، أدوم وأكثر استقرارًا وأقلّ ضررًا.. يقول (شوبنهاور): «الحدّ من دائرة العلاقات، يُساهم في الحدّ من الشّقاء». وأرى أنّ العلاقات الشخصية إنّما خُلقت للتراحم، والتعاطف، والاحترام، وليس للاستفزاز، والاستحواذ، والإيذاء، على الرّغم من اختلال هذا المفهوم في واقع الحال الاجتماعي.. لكنّ (سيوران) له رأيٌ آخر إذ يقول: «إذا كانت العلاقات بين البشر بهذه الصُّعوبة، فلأنهم خُلِقوا كي يهشّم أحدُهم وجه الآخر، لا لكي تكون لهم، علاقات!».