وحقيقة أن القارئ و لابد أنه سيشعر بأجواء الرواية الغربية الحديثة منذ أن يدلف إلي عالم "سيدات القمر"، لابد وأن يتيقظ لديه شعور مداهم ويتذكر عوالم فيرجينيا وولف و جيمس جويس و من هنا انطلق اهتمام الباحثة في التركيز على الأسلوب السردي الذي تميزت به رواية "سيدات القمر" و منه اكتسب العمل صبغته الحداثية و ربما كان من القوة بمكان لجذب و تشويق القراء و بالتحديد استعمالها لتقنية تيار الوعي، الذي نجده من جماليات الأسلوب ومن إيجابيات هذا العمل الأدبي. " وقد أصبح مصطلح تيار الوعي منذ العام 1920 يطلق بالتحديد على الطريقة السردية التي تعيد انتاج- بدون تدخل الراوي- المنظور الكامل والتدفق المستمر للعملية العقلية للشخصية حيث تختلط الادراكات الحسية مع أفكار الوعي و النصف وعي، و الذكريات، و التوقعات، و المشاعر و التداعيات العشوائية"، في "سيدات القمر" نجد أن الكاتبة جوخة الحارثي تمنح عبدالله اثنين و عشرين فصلاً من فصول الرواية البالغ عددها ثمانية و خمسين فصلاً، و هو مالم تخص به أي شخصية أخرى و بهذا تكون بؤرة السرد من نصيب عبدالله فيما يسميه جيرار جنيت بالتبئير الداخلي حيث تكون "الرؤية فيه مقتصرة على الشخصية أي تعبير عن وجهة نظر شخصيّة فرديّة ثابتة أو متحرِّكة." بينما يخبرنا الراوي العليم في معظم الموقت بالوصف والاخبار عن بقية الشخصيات الرئيسية والثانوية وذلك فيما يطلق عليه التبئير الخارجي وهو" الذي تكون بؤرته خارجة عن الشخصية المروي عنها وبالتالي فالراوي أو القارئ يعرف أقل من الشخصية التي يروي عنها كما يعتمد فيه كثيرا على الوصف الخارجي والراوي لا يعرف ما يدور في خلد الأبطال". فعن طريق تيار الوعي تأخذ الكاتبة القارئ في رحلات ارتدادية يتقافز فيها وعي عبدالله في ومضات زمنية بين الماضي و الحاضر، إلى ذكرياته منذ طفولته و مراهقته و شبابه و زواجه بميا و مولد أبنائه الثلاثة لندن و سالم و محمد ووصولاً إلى حاضره كرجل أعمال معروف و المشاكل المختلفة التي يتعرض لها أبنائه و كيفية تأثر علاقته بهم بعقده النفسية. تستخدم الكاتبة عدة تقنيات فرعية تدخل تحت الإطار الكبير لتيار الوعي مثل الاستبطان والتداعي الحر، المونولوج الداخلي، مناجاة النفس باستعمال الاسترجاع، و كذلك تستعين بالأهمية النفسية لرمزية الأحلام و مدى افصاحها عما يكتنزه الشعور اللاواعي لديه .. وفي إطار إهتمام الكاتبة جوخة الحارثي بالتصوير النفسي لشخصية عبدالله نجدها تعطي أهمية كبرى للأحلام و التي تتداخل مع السرد على لسان عبدالله والتي من خلالها يتمكن القارئ من معرفة ومحاولة فهم مدى القلق، و العذاب و العقد النفسية التي تسيطر و تتحكم في شخصيته. للكاتبة جوخة الحارثي عدة أعمال سردية مثل "منامات" 2007، "نارنجة" 2016، "سيدات القمر" 2010، ومجموعتان قصصية وكذلك العديد من الأبحاث النقدية المنشورة. و قد ترجمت "سيدات القمر" إلى اللغة الإنجليزية، بعنوان Celestial Bodies، ترجمة مارلين بوث، و قد حصلت الكاتبة جوخة الحارثي على جائزة مان بوكر العالمية للرواية،2019 عن هذه الترجمة . رواية سيدات القمر فسيفساء تراصت حباتها الصغيرة الملونة بتناغم و انسجام قد لا تدركه العين في الفصول الأولى، أو لا يحسه إدراك القارئ الذي قد يربكه ثوب الحداثة الذي اردته الرواية على مستوى الشكل الفني و تمسكت به كلحاف سيدات القصة واعتمرته بإحكام مثل "مصرٍ" عماني أصيل، لتأسره بعد ذلك كعمل أدبي ذي وجوه متعددة و فضاءات متنوعة فيمكننا تصنيفها تحت عدة أنواع فرعية للجنس الأدبي الروائي كرواية اجتماعية، توثيقية، تاريخية ، و كذلك أدب ما بعد الاستعمار حيث أنها تستخدم حشدها الكبير من الشخصيات لترسم لنا من خلال السرد المتنوع لوحاتٍ متداخلة للمجتمع العماني تبرز التحول الاجتماعي و الاقتصادي و التغيرات السياسية من أواخر القرن التاسع عشر إلى عصرنا الحاضر من خلال غزل نسيج محكم لحكايات متداخلة لحيوات حوالي ثلاثة إلى أربعة أجيال من عائلتي سيدات القمر ميا و أسماء و خولة بنات الشيخ عزان و سالمة و أزواج أولائي البنات و أسرهن، و يقابل ذلك أيضاً حشد كبير نسبياً من شخصيات الجواري و العبيد فتولدت القصص و نمت و شكلت الموضوعات العديدة و المتشابكة للرواية و بأسلوب الحكايات المتناسلة من بعضها البعض كقصص ألف ليلة و ليلة – والتي تقتبس منها الكاتبة في إحالة أدبية في قصة الجارية تودد- وذلك بين العالمين المتضادين في القرية المتخيلة، (العوافي) حيث تكون مسرحاً للكثير من أحداث الرواية وهِجر البدو الذين تحولوا إلى حياة الاستقرار من جهة، و بين مسقط و عالم المدينة الذي يسجل مظاهر التمدن و التحول بعد التغيرات الاقتصادية و السياسية التي مرت بها البلاد من جهة مقابلة، بل و تمتد دائرة المكان لتشمل أيضاً بريطانيا و كندا و ألمانيا. و في الفصل الأخير للرواية تتحول الأحلام إلى مشهد سيريالي في غاية الروعة في التصوير النفسي ، تتكثف فيه عناصر الحاضر والماضي ويمتزج الواقع بالخيال والأحلام وتتجسد فيه ثلاثة أجيال في مخيلة عبدالله و وعيه فيتماهي مع شخصية ولده محمد و يتخيله يقول معبراً عن أشياء كان يتمنى أن تحصل له مع زوجته ميا: "قال لي إنها تغار عليه بشكل جنوني، و تمنعه من فعل ما يحب، وتراقب هاتفه ... و أنا قلت لمحمد " من هي؟" فنظر إلىّ بدهشة شديدة وقال: " زوجتي، ميا"، بل ونسمع مع عبدالله شكواه من ميا على لسان ابنه " تنحني على ماكينة الخياطة و تمسدها و لا تنحني عليّ" وبالتأكيد لابد أن يحضر والد عبدالله في هذا المشهد الهام في مقاطع متداخلة الأجزاء، فعبدالله لا يزال يحمل هم انتقاده و استهزائه: "سمعت ضحكة خافتة تنطلق من المقعد الخلفي، ضحكة مكتومة وهازئة، ضحكة أعرفها جيداً...لا تضحك عليّ يا أبي، أنت لست هنا، أنت مت في السنة التي ولد فيها محمد". وأياً كان قصد الروائية بجعل عبدالله ينادي على أبيه ليأخذ محمداً معه، فبعد التماهي معه ربما كان يتمنى أن يكون بجوار أبيه فهو برغم كل ما عاناه من قسوة معه فقد كان يحبه حباً كبيراً و تألم كثيراً و بكاه طويلاً بعد موته، أم أنه في غمار هلوساته و تخيلاته يتمنى في عقله الباطن في التخلص من إبنه محمد المريض ، بل ربما يتمنى أن يغوص هو في البحر في شخصية ابنه محمد، ليتخلص بالاغتسال بماء البحر من كل عقده النفسية و كل ما يكبل النفس من هموم و أحزان بسبب الماضي أو الحاضر. وبهذا نجد أن الكاتبة جوخة الحارثي قد تمكنت بفاعلية من استخدام تقنية تيار الوعي لتقديم صورة نفسية عميقة لشخصية عبدالله بن التاجر سليمان، بالقدر الذي يمكننا معه القول أنها ربما تفوقت في التصوير النفسي لعبدالله أكثر منها في تصوير نفسية ميا التي لم تجمعها الأقدار مع من أحبت بصمت و عشقته من طرف واحدٍ، و إن كانت الكاتبة اختارت لميا في أفعالها بالميل إلى الصمت و النوم و الضحك الهستيري أحياناً ما يتناسب كسماتٍ لشخصية انسحابيه تميل للانطواء و الانكفاء على ذاتها لما منيت به من فقد عاطفي و اضطرارها للزواج من عبدالله انقياداً للعادات الاجتماعية بالزواج التقليدي، و قد تكون شخصية ميا بذرة لجزء ثانٍ من الرواية أو تتبلور في شخصية جديدة لرواية قادمة.