تمثل اضطرابات الصحة النفسية إحدى مشاكل الصحة العامة الرئيسية، والسائدة على الصعيد العالمي التي تؤثر على المجتمع حيث يمتد أثرها ليشمل كافة الأعمار من كلا الجنسين، ومختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وقُدرت التكاليف الاقتصادية العالمية للاضطرابات النفسية ب2.5 تريليون دولار أمريكي، وفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية، التي جعلت الأولويه للصحة النفسية في عام 2019 في محاولة لتحديد مدى انتشار الاضطرابات النفسية في المملكة العربية السعودية، وقد قام مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة بإطلاق مشروع المسح الوطني السعودي للصحة النفسية في عام 2010، كجزء من مبادرة المسح العالمي للصحة النفسية التابع لمنظمة الصحة العالمية وجامعة هارفارد، والتي أُجريت في أكثر من 33 دولة حتى الآن. ويسعى المسح الوطني إلى الإلمام بجميع جوانب الصحة النفسية في المملكة من خلال الإجابة على الأسئلة التالية حول المجتمع السعودي: من هم الأفراد الأكثر عرضة للإصابة في المملكة؟ ما هي الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعاً؟ ما هي أفضل الطرق لتقديم خدمات الصحة النفسية في المملكة؟ ما هو العبء الذي تشكّله الاضطرابات النفسية على المجتمع السعودي؟ وقد حظي المشروع الوطني للصحة النفسية بدعم العديد من الجهات كمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، ووزارة الصحة، وجامعة الملك سعود، بالإضافة إلى الهيئة العامة للإحصاء، وتم دعم المشروع عبر مِنَح متعددة من شركة سابك، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وشركة أبراج. شارك في المسح الوطني السعودي للصحة النفسية أكثر من 76٪ من الأسر التي تم التواصل معها على أن تكون جزءًا من الدراسة - وهو إنجاز مثير للإعجاب، نظرًا لأن هذه دراسات الاستقصائية غير مسبوقة ونادراً ما يتم هذا النوع من الدراسات في المملكة. وشملت عينة المسح الوطني أكثر من 4000 مشارك سعودي من الذكور والإناث تتراوح أعمارهم بين 15 و65 سنة من جميع أنحاء المملكة حيث اختيروا ليكونوا عينةً تمثل المجتمع السعودي. وتوصلت نتائج المسح، الذي تم الكشف عنها في أواخر عام 2019، أن حوالي 34% من السعوديين تنطبق عليهم معايير تشخيص اضطرابات الصحة النفسية في وقت ما من حياتهم. وبشكل أكثر تحديداً، يستوفي اثنان من كل خمسة شباب سعوديين معايير تشخيص اضطرابات الصحة النفسية في وقت ما من حياتهم. وهذه الإحصاءات مماثلة لإحصاءات البلدان الأوروبية مثل فرنسا وهولندا، وأقل من نيوزيلندا والولايات المتحدةالأمريكية.. كما أظهرت النتاج أن حوالي 13% من السعوديين فقط يسعون لتلقي العلاج لاضطراباتهم الصحية النفسية في إحدى السنوات من حياتهم. في الواقع 80% من السعوديين الذين شُخِّصوا باضطرابات حادة في الصحة النفسية لا يسعون لتلقي أي نوع من العلاج. نحن نعمل على دراسة أسباب انخفاض تلقي العلاج، والذي قد يكون سببه قلة الوعي، أو العقبات التي تحول دون الوصول للعلاج، أو الوصمه الاجتماعية. كما أظهرت النتائج أن حالات اضطرابات الصحة النفسية تؤثر على السعوديين الأكثر تعليماً مقارنة بالأقل تعليماً. وهذا ليس مستغرباً، لأن العديد من هؤلاء المتعلمين هم من الشباب ويشكلون غالبية السكان السعوديين. وتؤكد هذه النتائج على الحاجة إلى إجراء البحوث المستقبلية التي تستهدف هذه النتيجة بشكل خاص وتستند عليها، نظرًا لأنّ فئة الشباب تمثل موردًا حيويًّا في جميع البلاد. وبحسب المسح الوطني فإن أكثر الحالات النفسية انتشارًا بين النساء في المملكة اضطراب قلق الانفصال بنسبة 13.0%، ويأتي ثانيًا الاضطراب الاكتئابي الرئيسي بنسبة 8.9% ، في المرتبة الثالثة الرهاب الاجتماعي بنسبة 7%، وفي المرتبة الرابعة اضطراب نقص الانتباه - فرط الحركة بنسبة 6.0%، ثم في المرتبة الخامسة اضطراب الوسواس القهري بنسبة 4.9%. كما بينت نتائج المسح الوطني أن أكثر الحالات النفسية انتشارًا بين الرجال في المملكة اضطراب قلق الانفصال بنسبة 11.0%، ويأتي ثانيًا اضطراب نقص الانتباه - فرط الحركة بنسبة 10.0%، في المرتبة الثالثة الرهاب الاجتماعي بنسبة 4.3%، وفي المرتبة الرابعة اضطراب ثنائي القطب بنسبة 4.0%، ثم في المرتبة الخامسة الاضطراب الانفجاري المتقطع بنسبة 3.8%. تكمن أهمية هذا المشروع في تزويد الأطباء وصانعي القرار في مجال الصحة، برؤية لتوفير الخدمات الوقائية، والعلاجية، والتأهيلية ذات الصلة في المملكة. ونأمل أن تحفز نتائج أبحاثنا اهتمام البلدان الأخرى في المنطقة التي نتطلع إلى تبادل خبراتنا معهم. هناك حاجة إلى أن تتضمّن الأهداف الرئيسية في جدول أعمال السياسات تقديم الخدمات التي يَسهُل الحصول عليها، والتي تلبي احتياجات الصحة النفسية للسكان السعوديين. قد يتمثل الحل العلمي للدراسة البحثية في العلاجات الإلكترونية، التي يقدّمها المتخصصون بشكل آمن وفعَّال، عبر الإنترنت للمرضى في المنازل. ينبغي أن تركز الدراسات المستقبلية على اضطرابات محددة في مجال الصحة النفسية، وعوامل الخطر، والعواقب الصحية المرتبطة بها في المجتمع السعودي. وكما ذُكِر سابقًا في التقرير، هناك حاجة ماسة وواضحة لإجراء بحوث عالية الجودة في مجال الصحة النفسية في المملكة. نأمل أن تفتح النتائج التي توصلنا إليها الحوار حول الصحة النفسية، وتزيد من الوعي، وأن تكون موردًا تعليميًا يزيد من فهم ظروف الصحة النفسيه السائدة بين السعوديين، ويساهم في تحدي الوصمة، ليس فقط في المملكة، ولكن أيضًا في المنطقة كلها. http://www.healthandstress.org.sa *أستاذ زائرفي كلية الطب في جامعة هارفرد ورئيسة قسم بحوث الوبائيات، مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث