في طفولتنا؛ خلال فترة السبعينيات الميلادية كان وجود (الدراويش) في أحياء وشوارع المدينةالمنورة ظاهرة شائعة وملحوظة الى الحد الذي يمكن أن تجد درويشاً في كل حي من أحياء المدينة؛ وخصوصاً تلك المجاورة للمسجد النبوي!. معظم هؤلاء الدراويش كانوا نجوماً ومشاهير بمقاييس اليوم، فلكل منهم جمهوره ومحبوه، ولقبه و(لزمته) الخاصة التي يكررها على مسامع الناس كي يضحكوا ويحسنوا إليه بمال أو طعام .. اللافت والمحير كان تفاوت الشعور العام تجاه هؤلاء الدراويش، فبينما ينظر لهم البعض بملائكية ساذجة؛ وأنهم أناس مباركون، يجري الله الحكمة على ألسنتهم، كانت فئة أخرى تنظر لهم بشك وحذر وريبة وتؤكد على أنهم مجرد (جواسيس) وعملاء لبعض الدول المعادية يستحقون السجن!.. وكان هذا تناقضاً محيراً بالنسبة لأطفال في سنِّنا المبكرة. . حملت هذا التعجب لسنوات، حتى استهوتني كتب الرحالة الغربيين في الحجاز، وطرائق دخولهم للحرمين الشريفين فوجدت أن كثيراً منهم -ونظراً لمهامهم السرية- يفضلون بالفعل التنكر في شخصية (الدرويش) كونها تخرجهم من الكثير من المآزق التي قد يقعون بها نتيجة ضعف معلوماتهم في الدين الإسلامي، فضلاً عن أنها تمنحهم القدرة على الدخول في كل مكان يرغبون دخوله بما في ذلك المساجد والبيوت، فكثير من أخطائهم تمر دون عقوبة، ودون أن تلفت نظر أحد ، فالدروشة في الشرق مرتبة من مراتب الجنون مرفوع عن صاحبها القلم شرعاً وعرفاً.. إضافة الى ماتجلبه لصاحبها من أعطيات وهبات، فهناك من يتبارك بهم ويعتبرهم من أهل الله وخاصته! . . يعترف المستشرق الشهير (بيرتون) أنه تقمص شخصية الدرويش في العام 1853 م، عندما كان يتجسس لمعرفة القبائل التي كانت تقاوم الاستعمار ، فكان يمشي في الطرقات بلباس الدراويش، حتى أن أحد زملائه الضباط قام بضربه ذات مرة لشدة تنكره!. يقول بيرتون: «ليس هناك شخصية في العالم الإسلامي ملائمة للتنكّر أفضل من شخصية الدرويش، فالدرويش يحل له ما لا يحل لغيره، ومن المسموح له أن يتخطّى قواعد اللياقة والأدب، باعتباره شخصاً ليس من أهل الدنيا، وقد يصلّي وقد يمتنع عن الصلاة، ولا أحد يسأل هذا المتشرد ذا الحصانة لِمَ يأتي هنا ولِمَ يذهب هناك، وهذه المزايا مطلوبة للرحّالة ذي المزاج الحاد، ففي ساعة الخطر ما عليه إلى أن يصبح ممسوساً (به جِنة) فيصبح آمناً، فالمجنون في بلاد الشرق يشبه الشخصية الغريبة الأطوار في بلاد الغرب؛ إذ يسمح له أن يقول أو أن يفعل ما تمليه عليه الأرواح«!. . أما السلطان عبد الحميد الثاني فيسجل في مذكراته اعترافاً أشد خطورة، حين يُقرّ أن الدراويش كانوا جزءاً مهماً من دائرة الاستخبارات العثمانية منذ القرن الثامن عشر، عندما أدخلهم جدّه السلطان محمود الثاني واستخدمهم للتجسس على الرعية عبر ما كان يسمى ب»العرف العثماني»، وهي عملية جمع للمعلومات من التكايا المنتشرة في ربوع البلاد بمشايخها ودراويشها، والتي كانت قنوات استخبارات ومراكز لجمع الأخبار. . أكثر مخلوقات الله شراً ووحشية وجريمة على وجه الأرض هو الإنسان.. والكارثة عندما تكون الذريعة هي الدين أو الإنسانية.