ها هو تاريخ استشهادك يعود 02-04-1959 محملا بالآمال والخوف.. دعني ياوالدي العزيز أختفي في ظلك لأقول لك ما في قلبي.. البلاد التي تركتها وراءك ليست بخير.. وأصدقاؤك الذين أمنتنا عليهم، لم يعودوا أصدقاء.. لقد اختصروا التاريخ وذهبوا نحو ما كنت تخاف منه. أسمع دقات الساعة الخلفية مختلطة بقطرات دمك النازف، والماء الذي يأتي من حنفية مغلقة قصدًا بشكل سيئ. أرى في عينيك شيئًا غريبًا لا يموت.. يقاوم فناء اللحظة والموت المتربص بك في كل ثانية.. تتأمل أدوات التعذيب البدائية من حولك.. مقص قديم.. كلاب.. المغطس المليء بالماء والصابون الذي شربوك منه كثيرًا.. خيوط كهربائية موصولة بجهاز مولد للتعذيب القاسي، la gégène ، الحبل النازل من السقف الذي علقت عليه كثيرًا حتى ظننت أن حياتك انتهت الآن.. لم يسلم جزء واحد من جسدك من الألم.. تضحك في أعماقك: ما أغبى يقينهم القاتل، كثرة الألم تبطل مفعول الألم. أنت جالس على كرسي التعذيب منذ الصباح، بلا ماء ولا أكل، وجسدك أصبح مزقًا صغيرة تنزف حياة، ولباسك لم يبق فيه الشيء الكثير.. لم يتركوا فيك مساحة واحدة سالمة من تعذيبهم.. ماذا يريدون أن يعرفوا في النهاية؟ تضحك.. أفراد النقابة التي كنت تشتغل معهم في فرنسا؟ وسيطك بين الجبهة وفيدرالية الجزائريين في فرنسا التي انتميت إليها في وقت مبكر؟ المرأة التي كنت تعيش معها وخرجت برفقتها، ووضعتم الحواجز في الشوارع الخلفية لصد النازية، قبل أن تسيرا معًا اليد في اليد، في شوارع باريس الواسعة احتفاء بنهاية النازية، وأملا في حرية بلدك كما فعل إخوتك في سطيف وخراطة وقالمة.. قبل أن تكتشف اللعبة الاستعمارية، أنت ورفيقتك النقابية التي علمتك الكثير في الجامعة الشعبية الفرنسية، أنت الشاب البسيط الذي دخل إلى فرنسا وعمره لم يتخط ست عشرة سنة، بحثًا عما يعيل العائلة به في زمن صعب.. لم تكن الحرب قد بدأت، لكنك كنت تراها كلما تحدثت مع أصدقائك من النقابيين. أراك بكل دمك وجراحاتك.. أعرف أنك لا تراني جيدًا من شدة الورمين اللذين خلفهما التعذيب في عينيك.. لكنك تسمعني.. فقد كان وفاء أمي كبيرًا لك، بأن علمتنا في المدارس الفرنسية المتاحة، وأكملت جدتي المهمة بأن وضعتني أنا تحديدًا في مدرسة قرآنية لأتمكن من العربية، وقد تمكنت منها كمن يسترجع كنزًا ثمينًا سُرق منه.. الوفاء لهذه اللغة هو وفاء لك ولأحلامك التي لم ترها لأنك حرمت منها، وظللت مؤمنًا بها حتى وأنت في آخر نزع للحياة.. كانت الفرنسية لغتك للتواصل، فقد كبرتَ هناك، وعملتَ هناك، وكانت العامية وسيلتك مع أمي ومع أهل البلاد، لكنك كنت تحلم بقدر أجمل لأبنائك ولأبناء الجزائر.. أحبك على الرغم من أني لم أرك كثيرًا.. عندما تأتي بعد كل سنتين من الغربة، أو عندما تعبر ليلا برفقة عناصر من الجيش بلباسك العسكري وسلاحك.. في مرة من المرات قمت ليلا ورأيتك.. لا أدري بماذا أحسست.. أجلسني جندي على ركبته وقال لا تخف نحن لسنا عسكر، نحن جيش تحرير.. لم أفهم الفرق، لكني كنت أدرك أن حمل والدي للسلاح كان من أجل شيء آخر غير العساكر الذين كانوا يمرون في كل وقت رفقة الحركة، بحثًا عن أبي فيخلطون الدقيق بالزيت، والماء ثم يطلقون النار على الحائط حيث الخزانات القديمة والكؤوس، وعندما يخرجون تفتح أمي الخزانة فتخيط الأقمشة بعد أن تنزع منها حب الرصاص.. وتجبر الأواني التي لم تكسر كليًا.. تمنيتك أن تفرح معي يوم نجحت في السيزيام (الإعدادية) وتذهب معي بدل أمي وبدل أن أكذب على أصدقائي عندما يسألونني: لماذا لم يرافقك والدك فأردد الجملة المعتادة: هو مريض أو هو في العمل، ولا مرة قلت إنك استشهدت، وأنك غير موجود إلا بعد سنوات، لأنه في أعماقي كنت أرفض موتك.. كنت في حاجة ماسة إلى أب يلعب معي والعب معه، وأعيش في ظله.