تحدثتُ في مقال سابق بعنوان»لماذا هندسة الوعي ؟!» قبل أسبوعين أن عملية الهضم العقلية لما يتناوله «العقل العاطفي»من أفكار سلباً أو إيجاباً عبر وسائط المعرفة المتعددة للثقافة الرسمية وغير الرسمية، ستؤدي إلى أن يتسع «الوعي» ويستصح أو ينكمش ويمرض. وتأتي أهمية «هندسة الوعي»عبر هندسة محتوى وسائط المعرفة المغذية للاوعي الوجداني الذي يتلقاه عقل المتلقي، بالتدقيق فيما يتم تقديمه ضمن الخطاب الثقافي العام الرسمي إعلامياً كونه المصدر الموثوق به من قبل الفرد في مخاطبة عقله معنوياً وروحياً؛ وهو ما ينبغي أن يكون متصدراً على وسائط المعرفة الأخرى؛ لأن العشوائية دون هندسة المحتوى لفرز الغث من السمين ستؤدي إلى تغذية رجعية لا تتناسب مع قيم الحضارة المرجوة والوطنية العليا، والفنون اليوم بأطيافها المتباينة والمتفاوتة وأبرزها «الدراما» بوسائطها المتعددة أقولها كدارسة متخصصة لمفهوم الدراما وليس من باب الرأي فقط تعتبر أهم المؤثرات في الخطاب الإعلامي للتغذية الوجدانية العقلية، حيث تصب تأثيرها عبر عملية «الإيهام» في اللاوعي لدى المتلقي ثم تنعكس بعد الهضم العاطفي على الوعي العقلي لتتم ترجمتها إلى قيم وسلوكيات يعتمدها الفرد، وذكرت في المقال السابق كيف استفادت أمريكا من «هوليود» في هندسة الوعي العالمي لتغذيته بسياسة الدولة العظمى في العالم؛ وفطنت الهند وأخرجت»بوليود» على خطى «هوليود» لتسيطر على وعي المواطن الهندي وتخدم سياستها الخارجية بتسويقها ثقافياً؛ وكوريا الجنوبية أيضاً على ذات الخطى اليوم، لهذا عرف الشباب العربي الكوريين وعشقوا ثقافتهم ومنتجاتهم؛ وهناك الصينوتركيا وغيرها يسيرون على ذات الخطى بما يتناسب مع إستراتيجيات تلك الدول الداخلية والخارجية. وسأضرب مثالاً لهضم فكرة هذا المقال؛ يتمثل في الدراما التركية القريبة من العرب؛ فمنذ سنوات هدف صُناعها في تركيا باعتماد سياسة «هندسة الوعي» إلى تحقيق أهداف إستراتيجية خطيرة تخدم الطمع التركي العثماني التوسعي؛ ووضعوا العرب هدفاً فتم تعريبها وبيعها إلى قنواتنا العربية التي وقعت في «الفخ» التجاري كونها لا تهتم ب»هندسة الوعي»؛ ووصلت للمشاهد العربي لأن واقع المواطن التركي المسحوق المقموع لا تعكس تلك الدراما حقيقته، إنما هدفها تقديم المواطن التركي المشابه للنموذج الأوربي، يتمتع بالانفتاح والحريّة والمعاصرة لكنه مسلم، وهو ما يحلم به كثير من العرب؛ فأوقعت الجماهير العربية بحب»نور»و»مهند»، وباتت تركيا محل اهتمام العرب سياحياً وثقافياً؛ ثم بدأت الدراما التركية بالتغذية التاريخية عبر أمجاد «حريم السلطان» و»أرطغرل» لتمجيد بطولات العثمانيين المزيفة وتعويد العقل العربي على عودة الدولة العثمانية وحسنات الخلافة التي عذَّبت وجوَّعت العرب وغضَّت الطرف عنهم، فأنت على مشاهدتك تلك المسلسلات لا تجد ذكراً لعربي رغم أن العرب من صنعوا حضارة العثمانيين بعد أن خطف العثمانيون المهندسين والفنانين العرب ليبنوا إسطنبول؛ والنتيجة خطيرة تتمثل في إعجاب الكثير من العرب -بحسن نيّة- بالعثمانية ودولة الخلافة الإسلامية وهو ما كان يتوازى درامياً مع تسويق خطاب الفكر الإخواني الخطير دققوا في تاريخ إنتاج مسلسل نور عام 2005م ثم «قيامة أرطغرل» عام 2014م!، واهتمام «أردوغان» بتصويره يؤكد «سُميّة» أهداف تلك الدراما!. هذا ما يمكن أن اسميه ب»هندسة الوعي»! وكان لزاماً أن ينتبه الإعلام العربي للفخ «الدرامي» التركي للأسف الشديد لكنه استيقظ متأخراً وعليه الآن تطهير الوعي العربي مما تلوث به، وقدم أخيراً «ممالك النار» المسلسل الذي أعتبره أنموذجاً مهماً ل»هندسة الوعي» العربي بما يناسب واقعه وثقافته وأهدافه الحضارية، وللمقال بقية .