لا يمكن لمثلي أن يُمرر خبر سماح المحكمة العليا في الهند ببناء معبد هندوسي على أنقاض المسجد البابري لاعتباراتٍ عديدة، آخرها أنني زرتُ المسجد في أيوديا، وسجلتُ المأساة بالقلم والصورة، كيف هجم المتطرفون الهندوس عليه عام 1992، وكيف انتفض الضمير الهندي النقي- حينها- مُمثَّلًا في رئيس الوزراء في بي سينج رافضًا هذا التصرف البغيض، ومعلنًا تعاطفه مع أبناء الهند من المسلمين! يومها أيضًا تسابقت المؤسسات الإسلامية والعربية، فضلًا عن الحكومات، بل الرئاسات، في التنديد بهذا العمل الوحشي، وإعلان التأييد الكامل والشامل لمسلمي الهند! كنتُ في الهند في تلك الأيام الحالكة في تاريخ الديمقراطية الهندية، وأستعين هنا بل أستعير عبارات سمعتها من رئيس الوزراء في بيته قبل أن يُعلنها على الملأ: لا لجرح مشاعر الشريحة المسلمة من شرائح المجتمع.. لا لجرح جزء أصيل من الجسد الهندي! في ذلك الأسبوع الدامي هجم القوميون المتشددون على المسجد، الذي شيّد قبل أكثر 460 عامًا!، ولأنهم كانوا في المعارضة حينها، فلم يمر الأمر كما يتمنون، وانتفض العالم كله، بهندوسه ومسيحييه ويهودييه، بعربهِ وآسيوييه وأفارقته وأوربييه، مستهجنين هذا التصرُّف المتطرف الذي وصل إلى حد هدم مسجد، ومقتل نحو ألفي إنسان.. وكان ما كان وأصبح القوميون المتشددون في السلطة -هذا تعريف سياسي هندي- وجاء رئيس الوزراء الحالي السيد مودي، لرئاسة الوزراء بخلفية وعوده للمتطرفين، بهدم المسجد وبناء معبد فوق أنقاضه! يعرف المراقبون من الساسة وسفراء العالم كله، أن رئيس الوزراء الذي أعقب سينج وهو السيد تشاندرا شيكر انحاز للعقل والاعتدال، ورفض بناء المعبد على أنقاض المسجد، مُحذِّرًا من العبث بمشاعر الأقليات لحساب صناديق الانتخابات، وكما هو متوقع سقط شيكر في حقيقة الأمر ضحية لموقفه!، ثم جاء ناراسيمها راو ومضى، قبل أن يصبح السيد مودي رئيسًا للوزراء، وقبل أن يسيطر (بهاراتيا جاناتا) على مقاليد الأمور، حيث بات على الحزب ورئيسه الإيفاء بالوعود التي قطعوها على أنفسهم منذ ثمانينيات القرن الماضي! وهكذا استيقظ العالم يوم السبت 9 نوفمبر 2019 على خبر إعلان المحكمة أن «آلة أثرية تشير إلى وجود هيكل كان مشيدًا قبل المسجد في الموقع!، على أن السيِّد مودي لم يكتفِ بالتهنئة، وبإعلان الانتصار، فقد انبرى مغردًا على طريقة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب: «القضاء أنهى بشكل ودي قضية مستمرة منذ عقود»! ولأن المسلمين هناك وغير المسلمين من المنصفين، بل من المحايدين الهنود، يعرفون أن مودي كان ولا يزال رئيسًا لحزب (بهاراتيا جاناتا) يعرفون أن هذا الموقع الذي كان يضم حتى عام 1992 مسجدًا بني في القرن السادس عشر، فقد تذكَّروا شعارات حزب مودي التي كانت ولا تزال أيضًا تتحدَّث عن المسجد أو الموقع، باعتباره «مكان ولادة الإله راما، الإله المحارب». أُدرك أن المسألة شأن هندي، حتى وإن تعلَّقت بالمسجد البابري، وأوقن أن المسجد البابري شأنه في ذلك شأن ملايين المساجد في أنحاء المعمورة، ومن ثم فهو ليس المسجد الأقصى حتى نبكي عليه!، وأعرف كذلك أن «طبيعة المرحلة أو خطورتها»، فرضت علينا عدم الشجب والإدانة، حتى ولو من باب التعاطف أو الاستكانة، لكنني اضطررتُ للكتابة، احترامًا لموقف أو سيرة رئيس وزراء هندي قال لي في حديث مُسجَّل ومنشور: قدمتُ شهادتي للتاريخ الهندي، وكانت على شكل استقالة أو إقالة اضطرت لها حكومتي، وهى تُخيّر ما بين ترك المتعصبين يعبثون بأمن البلاد، وبين ترك المقاعد الوزارية. لقد اخترنا الخيار الثاني، فهو أشرف وأبقى لنا! أكتب عن هدم المسجد البابري احترامًا وتقديرًا لرئيس وزراء آخر هو تشاندرا شيكر الذي قال لي أيضًا وفي حديث منشور: في تشييد المعبد الهندوسي لا أحد يعترض، ولكن أن يتم تشييد المعبد بعد هدم المسجد، أو على أنقاضه، فهذا ليس بصحيح، لأن القلوب ستُجرح، والدولة تنكسر إذا انكسرت القلوب، وأنا لا أريد أن تنكسر قلوب الأقلية!