لو كان كارل ماركس حياً بيننا، لما استطاع -في ظني- أن يقدم بياناً أكثر «تشريحاً» وربما «شرشحةً»، لحال الشعوب في ظل فوضى الرأسمالية مما فعله تود فيليبس مخرج (والكاتب المساعد) لفيلم (الجوكر)، الذي لا تزال صالات السينما تعرضه حول العالم، وأولها صالاتنا هنا في السعودية، تلك التي تكتظ بالحياة والبهجة. (تذكَّروا أننا قبل عامين فقط كنا –مثل الصغار المحرومين- نتابع أخبارَ هذه الأعمال العظيمة في العالم حولنا، بحرمانٍ وحسرة). غير أني أشك أن أحداً ممن حضر الفيلم وعاش تفاصيله يمكن أن يغادره دون غصةٍ أو مرارةٍ، ليس بالضرورة أن يدرك سببها.. أعني هنا -بطبيعة الحال- الأشاوسَ والشوساءاتِ الذين لا يغمض لهم جفنٌ أمام الشاشات. ويمكن أن أقول: إن أداء هواكين فينكس كان الجزء الأهم في العمل، ويمكن أن أتحمّس وأقول -وقد يتفق معي بعضكم- إن فيلماً كهذا لا يصلح له من نجوم هذا العصر أحد غير «فينكس».. أعتقد أن صورة فينكس كانت في ذهن الكاتب حين لمعت فكرة النص، وهو في مكان قريب من ضريح كارل ماركس بلندن، أقول أعتقد.. لأني لست متأكداً من معلومتي هذه بالطبع. «جوكر» عمل جبَّار في اقتناص التفاصيل، ويمكن أن نعده كوميديا سوداء، رغم أن دمه متفرّق بين قبائل الأجناس الأخرى. يحكي الفيلم كيف يمكن أن تستحيل الرأسمالية إلى نظام اجتماعي مغرقٍ في الطبقية والقسوة والفوضى. وتتمحور قصته حول شاب بسيط يدعى «آرثر»، يشتكي من قصور عقلي، وتوهّمات وعُقَد نفسية متنوعة، يعيش مع أمه وحيداً وفقيراً، ويعمل مهرجاً يحلم أن يصبح نجم (ستاند أب كوميدي) شهير، وأمّه تصر على أن «توماس واين»، الغني جداً وصاحب النفوذ الواسع -إن أصبح حاكماً- هو الذي سينقذ المدينة التي تحتضر وتتراكم فيها النفايات والاحتجاجات. أم آرثر كانت تعمل عند توماس قبل ثلاثين سنة، لذلك هي على يقين أنه سينقذ المدينة، وسينقذها وينقذ ابنها، الذي قد يكون ابنه كذلك. لكن ابنها آرثر يتعرَّض لسلسلة اعتداءات وخيبات تقوده إلى إخراج الوحش في داخله. المدهش في الفيلم أن هذا الوحش لم يستطع أبداً إخفاء آرثر البريء، فقرر أن يمتزجا معاً. تقود الأقدار أن يتحقق حلم آرثر في النهاية أن يصبح ضيفاً على البرنامج الشهير ل «موري فرانكلين » (يقوم بدوره روبرت دينيرو). سأُركِّز هنا على ثلاثة نقاط في العمل: ضحكة آرثر، ورقصته، وحلمه بأن يكون نجم الضحك الأول. يمكن اعتبار ضحكة آرثر الثيمة الرئيسة في الفيلم؛ ضحكة ساخرة، سخيفة، تستخف بمن وما حولها، وتتكرر كثيراً بشكلٍ محرج، وبغيض، يبعث على التوتر. ليس صعباً على المتابع أن يلاحظ أن إيقاع الضحكة حكايةٌ مستقلة من حكايات الفيلم. (بعد نهاية الفيلم كان صدى ضحكات الشباب المحاكية لآرثر يتردد في كل مكان). لكن هذا ليس كل شيء، فضحكة آرثر مرض لا يمكن السيطرة عليه.. تخيّلوا أن فرط الضحك مرض، فهل يصلح أن نعده مرضَ العصر!؟ يحمل آرثر بطاقةً يُوزّعها على الناس حين يمر بهذه النوبة، كي لا يفزعوا أو يغضبوا، وحين يجدها أحد المحققين في جرائم القتل، يسأله: إن كانت حقيقية؟ أو أنها ضمن متطلبات العرض؟ العرض الكوميدي؟. يحلمُ آرثر أن يصبحَ نجمَ «ستاند أب»، يضحكُ الناس منه لا عليه.. لكن الرغبةَ في الشهرة تلتقي مع سذاجته، فتقود –حين تصطدم بالواقع الذي صممته الرأسمالية- إلى الكارثة.. فكروا في سعار الشهرة الساذج هذه الأيام! فكروا في بساطة الإنسان العادي الذي يحلم بالشهرة برومانسية بدائية، تقوده للتناقض، وتنتهي بإسقاط كل القيم..!! أما رقصة آرثر فقد كانت مونولوج الفيلم الخاص؛ فالبطل لا يتحدَّث مع نفسه، ولا يهمس لأعماقه وهو يواجه صعوبات الحياة ومصائبها، لكنه يرقص.. ورقصته إيحائية غريبة، تُشبه رقصةَ روح تسبقُ جسدَها نحو معبدٍ مهجور، أو حُلمَ مطربٍ فاشل يقف في كواليس مسرح مكتظٍ بالخيبة!. يرقص آرثر، وتشعر أن جسده النحيل ( المتهدّم) ينوح فرحاً.. على المسرح، وأمام الكاميرات، كان آرثر –ولعله لا يزال- رمزاً للسذاجة والحماقة والجنون ربما.. بينما في الشارع كان آرثر -ولعله لا يزال- بطلاً للبسطاء، للناس، ورمزاً للمقاومة.. للثورة.. والإنسانية.