توقَّفتُ في الحلقة الماضية عند هذا السؤال: أيترك المُحرِّمون للغناء والموسيقى الحديثين الواردين في صحيح البخاري وهما حديث الرُّبيع بنت معوذ، وحديث عائشة رضي الله عنها عن غناء الجاريتيْن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستنكره، ويستدلون بحديث هشام بن عمّار، وهو من مُعلّقات الإمام البخاري؟! فقد جاء في صحيح البخاري في باب ضرب الدف في النكاح والوليمة من كتاب النكاح: «حدَّثنا مسدد، حدَّثنا بشر بن المفضل، حدَّثنا خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ: (دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ).. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث في «فتح الباري» وأخرج الطبراني في «الأوسط» بإسنادٍ حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يُغنين: وأهدى لها كبشاً تنحنح في المربد وزوجك في البادي وتعلم ما في غد»، قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح»، وكذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تُغنِّيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه، ودخل أبوبكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: «دعهما إنَّ لكل قومٍ عيدًا، وإنّ عيدنا هذا اليوم». وجاء في صحيح البخاري، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينشد مع أصحابه: (تاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إِنَّ الأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: أَبَيْنَا أَبَيْنَا).. وكذلك كان ينشد في حفر الخندق: (اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ)، وكان الصحابة ينشدون بين يديه: (نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا، عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا)، وكان ينشد في بناء المسجد: (هذا الحمال لا حمال خيبر.. هذا أبر ربنا وأطهر)، وقد أذن سيدنا رسول الله لعامر بن الأكوع أن ينشد بين يديه في موقعة خيبر، ودعا له بالمغفرة، وأذن لأنجشة أن ينشد بين يديه حتى حرك الإبل، فقال: «رفقًا بالقوارير يا أنجشة»، والقوارير قلوب النساء. فهذا كله تشريع للنشيد والغناء وبيان لسنيّته وتحفيزه للهمم إن كان بمضامين طيبة.. فكيف يترك المحرِّمون للغناء هذيْن الحديثيْن، ويستشهدون بحديث هشام بن عمّار من معلّقات الإمام البخاري، وقال عنه ابن حزم: إنه منقطع؟!. والحديث المُعلَّق، هو ما حُذف أول سنده، سواء أكان المحذوف واحداً أم أكثر على التوالي، ولو إلى آخر السند، والأصل في المُعلَّق أنه مردود، وذلك لجهالة المحذوف فيه، والحديث هو: «ليكون من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير والخمر والمعازف»، وفيه هشام بن عمّار، وله مناكير، وقد قال عنه الإمام أحمد: طياش خفيف، وجاء في سير أعلام النبلاء للذهبي في سيرة هشام بن عمّار قلت: أما قول الإمام أحمد فيه: طياش، فلأنه بلغه عنه أنه قال في خطبته: الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه، فهذه الكلمة لا ينبغي إطلاقها، وإن كان لها معنى صحيح، وما بلغنا أنه سبحانه وتعالى تجلَّى لشيء إلا بجبل الطور، فكيف يُقبل حديث من يقول بالحلولية؟، وهي الاعتقاد بأن الله يحل في بعض بني الإنسان، ويُترك حديثان لا غبار على رواتهما، ولا يوجد ما يقدح فيهما، ومتنهما يتفق مع الفطرة الإنسانية.. للحديث صلة.