ليس مستغرباً أن يُبيح الإسلام الغناء والموسيقى، لأنّه دين الفطرة، والموسيقى والغناء من الأمور الفطرية التي فطر الله النّاس عليها، بدليل أنّ كل الأمم والشعوب في كل الأزمان والأمصار لها تراث غنائي وموسيقي، فنظرةُ الإسلام إلى الإنسان نظرةً شاملة لم تقم على التجزئة، وإنّما على التوازن. الإنسان في الإسلام مادة وروح، فهو مزيج من قبضة من طين الأرض ونفحة من روح الله، امتزج الاثنان في كيانٍ واحد مترابط رغم اختلافهما، ويُوضِّح هذا قوله تعالى في سورة ص: (إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، وقد تعامل الإسلام مع الإنسان وفق هذه النظرة، ووضح تعاليمه له موازنًا فيها بين المادة والروح، فلا يبخس للجسد حقًا ليوفي حقوق الروح فيحرم المباح، ولا يبخس للروح حقاً ليوفي حقوق الجسد فيبيح المحرمات (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، وهنا تتجلى معجزة الإسلام في مراعاته لطبيعة الإنسان؛ إذ وازن بين رغباته وسموّه الملائكي، فالإنسان في نظر الإسلام من حيث طبيعته موحَّد بين النواحي المادية والروحية والحاجات النفسية، فلا يجزّئه، فيؤمن بمادية الإنسان، كالداروينية التي نشأت عليها المذاهب المادية كالماركسية والفرويدية، ولا يؤمن برهبانية الإنسان كالبوذية والهندوكية، يقول تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)، ولكنه وازن بين متطلباته المادية والروحية، فهو يسمو بالنفس الإنسانية، وعواطفها إلى مراتب عليا من الطهر والعفاف، دون أن يُجرِّدها من روحانيتها أو من ماديتها بتنظيمها وتوجيهها الوجهة الصحيحة دون أن تفقد صفتها الإنسانية وجمالها الذي تستمده من جمال الكون وإبداع خلقه الذي يفجِّر طاقات الإبداع فيها، ومن نظرة الإسلام للجمال الذي يشمل الإنسان والحياة وكل ما في هذا الكون، فأباح ممارسة الفنون لمن أودع الله من خلقه المواهب الفنية على اختلافها، من شعرٍ وأدب، وموسيقى ولحن، وغناءٍ ورسم و..إلخ، وأباح التذّوق والاستمتاع بها لخلقه أجمعين. هذا ولا تقتصر نظرة الإسلام إلى الإنسان من حيث طبيعته ومكوناته، وإنّما تمتد إلى كينونته ودوره في هذه الحياة، فالإنسان في القرآن مخلوق مُكلَّف ذو رسالة هي الاستخلاف (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، فكيف يستطيع الإنسان أن يقوم بمهمة الاستخلاف وإعمار الكون، دون أن يُلبِّي حاجات النفس من الترويح والترفيه؟ فقد روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبوبكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله يُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا. قال أبوبكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبوبكر حتى دخلنا على رسول الله، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟»، قلت: يا رسول الله نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله: «والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات». والذي يستوقف كل ذي فِكر، كيف يترك المحرّمون للغناء والموسيقى الحديثين الواردين في صحيح البخاري، وهما حديث الرُّبيع بنت معوذ، وحديث عائشة رضي الله عنها عن غناء الجاريتيْن بحضرة الرسول الكريم ولم يستنكره، ويستدلون بحديث هشام بن عمّار؟. للحديث صلة.