حتى الآن لا أستوعب التعامل مع جماجم المجاهدين بوصفها أعمالًا فنية! يستوي في ذلك عندي جماجم المجاهدين الجزائريين والمصريين والفلسطينيين ومجاهدي بنين! وبمناسبة بنين فقد أعلنت الرئاسة الفرنسية، الأسبوع الماضي أن الرئيس ماكرون قرر أن تعيد بلاده 26 عملًا فنيًا تُطالب بها سلطات بنين، كان الجيش الفرنسي قد استحوذ عليها سنة 1892! والحق أنني راجعت التقرير الفرنسي أكثر من مرة مخافة التفسير الخطأ، أو الخلط بين الجماجم والأعمال الفنية، لكن خوفي سرعان ما بدأ يتلاشى وأنا أقرأ تصريحًا لوزير المجاهدين الجزائري «الطيب زيتوني»، والذي يشير فيه إلى أن الاتصالات جارية مع الحكومة الفرنسية منذ عام لاستعادة رفات نحو 20 من رموز المقاومة الجزائرية، المعروضة في «المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي». ثم جاء تصريح وزير الثقافة «عزالدين ميهوبي» ليحسم الأمر- أمر تخوُّفي من الفهم الخاطئ لمسألة اعتبار جماجم المجاهدين أعمالًا فنية حيث أشار إلى موافقة الرئيس ماكرون على استعادة جماجم المقاومين الجزائريين، المحفوظة في متحف الإنسان بفرنسا، وذلك بعد استيفاء بعض الإجراءات القانونية، وهي خطوة ذات دلالات مرتبطة بملف استعادة أرشيف ثورة التحرير بكلّ أبعاده. عدتُ لتصريح مسؤول «منظمة المجاهدين» فوجدته يقول: إن الحكومة الجزائرية تُطالب باسترجاع 31 جمجمة تم التعرف وتحديد هوية أصحابها الشهداء، مشيرًا إلى أن خبراء جزائريين انتقلوا مطلع العام الحالي إلى المتحف «بغرض المعاينة والتدقيق»، وتابع المسؤول ذاته: إن هؤلاء الخبراء لاحظوا أن غالبية بقايا الجماجم لم يعتنِ بها مسؤولو المتحف. ومن أشهر الجماجم الموجودة في المتحف، جمجمة محمد الأمجد عبدالمالك، والشيخ بوزيان زعيم المقاومة الشهيرة ب«ثورة الزعاتشة»، التي وقعت بمنطقة بسكرة (450كم جنوب شرقي العاصمة) عام 1849، وموسى الدرقاوي وسي مختار بن قويدر التيتراوي. كما تم اكتشاف الجمجمة المحنطة للمجاهد عيسى الحمادي، فضلًا عن القالب الأصلي لرأس محمد بن علال بن مبارك، مساعد الأمير عبدالقادر، رمز المقاومة الشعبية ضد الاستعمار، ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.! لقد زاد من دهشتي حد الضجر، بل الألم، ما ورد على لسان مدير «متحف التاريخ الطبيعي»، فيليب مينيسيي، من أن الجزائريين لم يقدموا طلبًا رسميًا بشأن استعادة الجماجم! ثم إن هذه الجماجم -والحديث لفيليب- «هي في الأصل هبات تعتبر إرثًا وطنيًا». على المستوى الشخصي، مازلتُ كلما مررتُ بالنصب التذكاري للشهداء، فضلًا عن مقابرهم، أشعر بجمال، بل بجلال الموقف.. جمال المكان وجلال الزمان.. وأرصد وجوه الأمهات والشقيقات، وهن يحكين للأبناء والأحفاد كيف أن هؤلاء الأبطال ما هانوا وما تهاونوا وما خضعوا.. وحتى آخر ساعة في حياتهم.. لغير الله ما سجدوا! حاولتُ أن أجد تفسيرًا سياسيًا أو فنيًا لاحتفاظ فرنسا بجماجم الذين جاهدوا «بالمفهوم الجزائري» ضد احتلالها، والذين ناضلوا بالمفهوم الإفريقي الثوري ضد استعمارها، فلم أجد! قلت لعله المفهوم الفلسفي! عرجتُ لكل المفاهيم والنظريات والمذاهب الفلسفية، بدءًا من مذهب اللذة، إلى مذهب النفعية، فلم أجد تبريرًا واحدًا! صحيح أن معيار خيرية الأفعال وجمالها هو درجة اللذة التي تُحققها، لكن القُبح والألم والشر، تبقى أشياء منحرفة عن الجمال واللذة والخير. ثم إن الأخلاق الفرنسية، حتى عند «بول ريكور» صاحب نظرية من الميتافيزيقا إلى الأخلاق، وعند رائد الفلسفة الوضعية إميل دور كايم، فضلًا عن قِيَم الحرية، تلفظ الاحتفاظ بجماجم المجاهدين الثوار من الجزائريين والأفارقة! وفي ضوء ذلك، أخشى أن يكون قد استقر في الوجدان الفرنسي النهم المستبد لإقامة امبراطوريات الشر المتوحشة من جديد! والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة هو: هل يتلذذ هؤلاء برؤية جماجم مَن ناضلوا ضدهم؟.. هل ما زالوا يتلذذون برجع صرخات من رفضوا الإهانة والاستعباد؟! هل يستويهم التاريخ الدموي الحافل الذي يُعدُّ بمثابة ميراث الشر من أو عن امبراطورياتهم البائدة؟!. ويا أصحاب متحف الشر الفرنسي، وكل متاحف الأشرار.. إن هذه الجماجم التي تُسمّونها أعمالًا فنية، ستظل صور أصحابها شامخة ساطعة كالنار.. بل كالإعصار، في أوجه اللصوص والسماسرة والتجار.. أعيدوها لبنين وللجزائر، أعيدوا جماجم الثوار، حتى يرسم الصغار وجوه أصحابها على كل جدار! كنتُ أنهي المقال، وكان صوت عبدالوهاب البياتي يرن في أذني وهو يتحدث عن العربي بن مهيدي، الذي قتله البرابرة الفرنسيين في زنزانته: قمر أسود في نافذة السجن.. وليل.. وحمامات وقرآن وطفل.. أخضر العينين يتلو سورة النصر وفل.. من حقول النور من أفق جديد قطفته يد قديس شهيد.. يد قديس وثائر.. ولدته ليلة بعثتها شمس الجزائر! رددتها وأُردِّدها اليوم لكل سجينٍ مظلوم يتبرَّم.. كان في نافذة السجن مع العصفور يحلم.. كان مثلي يتألم.. كان سرًا مغلقًا لا يتكلم.. كان يعلم: أنه لابد هالك.. وستبقى بؤرة شمس هنالك.. في ليالي بعثتها شمس الجزائر.. تلد الثائر في أعقاب ثائر.