تحت دعاوى ضرورة الالتزام بالقرآن والسنة، نشط غلاة الفكر الصحوي وموجات التحريم المجاني إلى التضييق على المجتمع منذ 1979، حتى وصل الحال إلى تحريم وضع النظم والقوانين وتقنين الأحكام، رغم أهمية اتساقها مع معطيات العصر وتشعب المعاملات وفقًا لفقه النوازل، ولعل أبرز ما يدعو إلى ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وبينما يرى العلماء الثقاة أن غلاة الفكر الصحوي يعمدون إلى تطويع القرآن والسنة لفكرهم السطحي وآرائهم المسمومة، التي تؤدي إلى التطرف والشلل بالمجتمعات، يرى آخرون أن المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الصحيح يؤكد أن المسلمين هم أعلم بأمور دنياهم، وبالتالي فمن حقهم وضع الأنظمة التي تواكب مستجدات حياتهم التي لم تفصلها الشريعة. وتنبع أهمية التحرك العاجل للتصدي لهذا الفكر البائس، من تحديات المرحلة الراهنة التي تستدعي ضرورة تكريس منهج الاعتدال وتحرير المجتمع من الفكر المؤدلج الذي عطل محركات التنمية لسنوات طويلة، نتيجة الخوف من أي فكر جديد. وإذا كان بعض القانونيين وضعوا أيديهم على الأسباب الكامنة وراء تطرف الصحويين ومنها الخوف على مصالحهم ومكاسبهم الآنية الضيقة، فإن البعض الآخر يتساءل وله الحق الكامل عن المخاطر وأسباب تحريمهم وضع قانون عصري والافتئات على الحقيقة، والقول: إن ذلك يعني الحكم بغيرما أنزل الله. ويستشهد هؤلاء بالقول: إن الكثير من توجيهات المصطفى في حياته لم تكن من القرآن فحسب وانما استمد بعضها من تجاربه الحياتية الطويلة، وهوالذي عمل منذ سنواته الأولى في التجارة، كما عمد عمر بن الخطاب إلى الاستعانة بنظام الدواوين من الفرس عندما احتاجت الدولة الاسلامية لذلك وهم الذين كانوا اشد الناس عداوة للمسلمين منذ أكثر من 1400 عام وربما حتى الآن. «المدينة» تفتح الملف المسكوت عنه وتكشف تفاصيل كثيرة غائبة عن الأذهان، ولاسيما وأن نسبة من هؤلاء الغلاة بينما كانوا يشجعون الشباب على المغادرة لأماكن التهلكة الملتهبة بالخارج والانضمام إلى جماعات إرهابية متشددة، كانوا يحرصون في المقابل على أن يتمتع أبناؤهم بكل مباهج الحياة وزخارفها. الجعيد: الرسول صلى الله عليه وسلم أول من وضع لبنات القانون فند المستشارالقانوني وأستاذ القانون الدكتور أصيل الجعيد، دعاوى الغلاة الذين يريدون إسقاط الشرعية عن أي قانون تصدره الدولة، بأقوال مزعومة لا تستند إلى أرض الواقع وحقائق التاريخ والتجربة الإنسانية منذ عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقال: إن الأفكار المسمومة يشتد رسوخها إذا ما تلبست الفكرة بالدين كعباءة، معربًا عن أسفه الشديد لرؤية بعضهم أن القانون الوضعي الذي يشرعه الإنسان ليرتب أمور حياته حرام إلى أن ترسخت الفكرة عبر سنين طويلة في الوجدان السعودي، ولاسيما مع موجة «الصحوة» والتحريم التي طالت المجتمع منذ 1979. وأشار إلى أن الغلاة دائمًا ما يجيدون المعارك الكلامية اللفظية التي لا تفضي لأي نتيجة مجدية مؤكدًا أن همهم الأول والأخير محاربة التنوير، ودائمًا ما كانوا يتصورون أن شريعتنا الإسلامية الغراء لا تحتاج قانونًا وضعيًا من الإنسان وهذا غير صحيح ففي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أدخل نظام الدواوين وهو نظام فارسي للسجلات الحكومية. ولفت إلى وجود أفكار مؤطرة راجت في الثقافة السعودية المعاصرة، تم تدريسها والإرشاد عنها أمام أعين المسؤولين في وقت من الأوقات حتى ترسخت في الوعي الجمعي للناس، وأصبحوا يتناقلونها كأنها حقيقة محضة دونما تساؤل أو تفكير. وأكد أن الإشكالية الأهم ليست بحرمة القوانين الوضعية وإنما القول بالحكم بغير ما أنزل الله، مشيرًا إلى أن في سيرة رسولنا الكريم ما يدل على أنه هو أول من وضع لبنات القانون الوضعي حيث كانت توجيهاته في الحرب والحياة بشكل عام لا تعتمد على القرآن فحسب وإنما استنادًا أيضًا إلى خبرته في التجارة والدعوة، وتساءل: لماذا تم تحريم القانون الوضعي بهذا الشكل حتى تم خلق صورة نمطية عنه بأنه حرام وكأنهم يقولون: إن التنظيم في شؤون الحياة محرم! وأرجع ذلك إلى رغبة الغلاة في إسقاط الشرعية عن أي قانون تصدره الدولة بغية السيطرة والنفوذ، مضيفًا: إن دعوات هؤلاء الغلاة ومفاهيمهم بسيطة إذا ما نظرنا لها من منظور اقتصادي، واشار إلى ان انشاء كليات للقانون في المملكة يحتم ضرورة تولي القانونيين للقضاء منوها بتوصية مجلس الشورى بهذا الشأن. ووصف محاولات الغلاة اقصاء القانونيين بأنها غيرة غير مبررة تلبست لباس الدين، مشيرا إلى انه ليس هناك دولة بالعالم لا يحكمها قانون. واكد أهمية القانون الوضعي السعودي الذي يصاغ مستنبطا من الشريعة الإسلامية وبالتالي لا يخالفها، مؤكدا في ذات السياق أهمية التقنين والتدوين، حرصا على المصلحة العامة. آل ظفر: إسكات أصوات «الصحوة» المجافية لموجبات السعادة شدد أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد محمد آل ظفر على ضرورة بذل المزيد من الجهد لتوظيف القانون لخدمة الواقع في مختلف المجالات بلا جمود أو تكلف أومشقة، وذلك استجابة ومواكبة لمجمل التطورات التي يحياها العالم من حولنا في ظل سياسة إسعاد البشرية بكل ما هو مستجد ونافع. ودعا إلى ضرورة إسكات الأصوات المجافية لموجبات السعادة بجمودها وتطرفها وغلوها اوما يسمى ب «الصحوة»، مشيرًا إلى مقولة للإمام الماوردي في أدب الدنيا والدين قائلًا «وما كان به صلاح الدنيا والآخرة فحقيق بالعقل أن يكون به متمسكا وعليه محافظا» اضافة إلى قول بعض الحكماء: الأدب أدبان: أدب شريعة وأدب سياسة، وبالتالى نقول: إن أدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان، وعمارة البلدان؛ لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرب الأرض ظلم غيره. وأشار إلى أن من أهم القضايا التي تطرح في ساحة التشريعات التطورات الهائلة التي تمر به المملكة، والنظم المستحدثة في مجال الحكم والإدارة، أو التي اصطلح على تسميتها بالقوانين الوضعية، ودعوة بعض الغلاة والمتطرفين إلى تحريم العمل بها، فهذه القوانين في مجملها ما دامت تحقق مصلحة معتبرة ومقاصدها فلا حرج في العمل بها نهائيا والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها، فكيف نرد هذه التقنينات ولدينا من النصوص ما يجيز العمل بها. ولفت ظفران إلى إن مجمل القوانين المتفقة مع روح الشريعة ومقاصدها جزء من السياسة، فالشريعة الإسلامية لا تناقض قضايا العقول الراجحة، بل تحض عليها وتأمر بها. الغامدي: المملكة مقبلة بقوة على التحول إلى دولة قانون أكد المستشار القانوني علي الغامدي أن المملكة مقبلة بقوة للتحول إلى دولة نظام وقانون من خلال تقنين الأحكام وتحويلها إلى بنود ليسهل التعامل معها، وأرجع إنكار بعضهم للقوانين الوضعية إلى 3 أسباب، تشمل عدم قراءة الأنظمة والاطلاع عليها بدقة وعدم التفريق بين التشريع والتنظيم والجهل بالفقه والسياسة الشرعية والتي تعطي لولي الأمر صلاحية في تقرير المصلحة. وقال: عندما نتحدث عن القوانين والأنظمة في المملكة فنحن نتحدث عن إجراءات وتنظيمات لا علاقة لها بالتشريع، المنصوص عليه في النظام الأساسي للحكم خصوصا وأنه منوط بالكتاب والسنة، وأن أي إجراء مخالف لهما يعد باطلا، واشار إلى ان الأنظمة بالمملكة تنظيمية وليست تشريعية، وإذا ما تم الاستناد على هذه القاعدة المنصوص عليها زال اللبس. وأشار الغامدي إلى أنه على الرغم من حساسية بعض الأشخاص تجاه مسميات - أنظمة وقانون - فإن العبرة بالمضمون، مؤكدًا أن المملكة مقبلة وبقوة وفق رؤية حكيمة وناضجة للتحول لدولة قانون ونظام، خصوصًا مع كثرة الأنظمة الصادرة مؤخرًا وتعديل القديم منها وفق رؤية إصلاحية، ونوه بالموافقة على تقنين الأحكام الفقهية وجعلها على هيئة بنود مثل الأنظمة تمامًا ليسهل التعامل معها وخصوصًا مع دخول الشركات العالمية للاستثمار. أبرز ملامح أفكار الصحوة وجهود المملكة في تكريس الاعتدال * افتتاح مركز الملك عبدالله لحوار الثقافات والأديان على أسس من الاحترام المتبادل وعدم الإقصاء والاعتراف بالتعددية. * كثير من الأسماء المدرجة في قائمة حركة الصحوة منتمية بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى منظمات إرهابية. * من أخطر أسس «الحركة الصحوية» التمييز المغلوط بين العقيدة والوطن وإلغاء الولاء الوطني واستبداله بقضية الولاء الديني العقدي. * شباب الصحوة اندفعوا في سباق إلى الانضمام إلى المنظمات الإرهابية خارج الوطن مثل «داعش» و«النصرة» وجماعة بيت المقدس. * الصحوة ترفع شعارات التدخل في شؤون المسلمين في كل مكان من العالم. * رفض شرعية الدولة الوطنية بكل أشكالها وضرورة قيام دولة الخلافة الإسلامية. * الصحويون من أنصار نظرية صراع الحضارات ولا يعترفون بالحوار. * يؤمنون بوجوب العمل المنظم لفرض السيطرة الصحوية على جميع المنابر دون الاعتراف بالتعددية ومبدأ الرأي والرأي الآخر. * الصحوة تقدم نفسها كمجموعة تحتكر تفسير النصوص وتقوم بفرض إرادة الله على الأرض. * تطرح جدلية حزب الله وحزب الشيطان على اعتبار أن من يوافقها يكون عضوًا في الحزب الأول ومن يخالفها في الحزب الثاني. * القيادة مطلقة في حركة الصحوة باعتبارهم ورثة الأنبياء. * حركة الصحوة تحاكم منتجات الواقع وتشكيلاته السياسية والاقتصادية والثقافية من منظور الحقب الإسلامية الماضوية. * الصحوة إعاقة حقيقية لمشروعات التنمية وحجر عثرة أمام تطور الدولة والمجتمع. * العقلاء من المثقفين السعوديين أسدوا النصيحة إلى كل أعضاء حركة الصحوة بالعودة إلى الاعتدال والوسطية التي تحافظ على كل التوازنات في المجتمع الإسلامي. آل منسي: الأفكار المتطرفة عرقلت الإصلاح والتنمية بالمجتمع انتقد المستشار القانوني نايف آل منسي بعض الآراء القديمة لبعض المشايخ ممن لهم مؤلفات في الحديث عن القوانين الوضعية واعتبارها من أصناف الكفر بالله، مشيرا إلى ان انتشار هذا الطرح في الأوساط العامة كان له أثره السلبى، ولا سيما وأن مجتمعنا لم يتربَ على النقد وطرح الأسئلة واختبار الأفكار وإنما على التلقين والتلقي والمحافظة على القديم تحت مبدأ الثبات على الحق، ورغم ظهور فكرة القانون الوضعي الموافق للشريعة وتطبيقها عمليا، إلا أن أتباع الصحوة ظلوا لا يعترفون بالقانون حتى بعد تغيير كلمة «قانون» إلى «نظام». وأشار إلى أنه من المعيب علميًا وفقهيًا أن نحتاج إلى طرح مسائل وخلافات فقهية وأدلة على جواز أن يستحدث الناس لأنفسهم تنظيمات تسهل أمور معيشتهم وأن نخوض معارك فكرية من أجل ذلك، كيف وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أخذ نظام الوزارات في المفهوم المعاصر من الفرس، ويلاحظ هنا أنه قد أخذه من غير المسلمين ولم يخترعه من تلقاء نفسه. وارجع الخلل في التعاطي مع هذه المسألة إلى التأسيس الخاطئ بشأن مفهوم الحكم الشرعي وإسقاط الآيات الواردة في هذا الباب في غير محلها، موضحا أن الله تعإلى لم ينزل أحكاما مفصلة لكل معاملات الناس بالتفصيل وإنما تم ذلك عن طريق الفقهاء الذين أنشأوا تفريعات واستطرادات عقلية تقوم على الفروض والاحتمالات مما أوجد لنا كتبا ضخمة مليئة بالمسائل التي لم ترد بالنص لا في القرآن ولا السنة والتي تشبه القوانين إلى حد كبير حيث تنص على صور وأفعال ثم تضع لها أحكاما ليس منصوصا عليها في الشرع وإنما هي اجتهادات مبنية على النصوص لتسهيل فهمها. وأشار إلى ان الشرع مجرد نصوص عامة مجملة لا يمكن تطبيقها إلا بواسطة فهم لأصولها وتنزيلها على الواقع وتفريعها على أحوال الناس، ولذلك كان هذا المفهوم المعيب لتطبيق الشريعة هو ذاته الذي فهمه الخوارج في زمن سيدنا علي بن أبي طالب حينما أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في شأن الفتنة التي جرت بين الصحابة واعتبروا ذلك خروجا عن تحكيم الله إلى تحكيم الرجال، ولذلك قال لهم رضي الله عنه: إن القرآن حبر ومداد وأن الذي يطبق أحكام الله هم البشر وليس القرآن بشكله ونصه، ومن هنا وجدنا بعض من ينتسب إلى العلم في هذه الأيام من اعتبر أن تحكيم الحكم في مباراة كرة القدم هو من الحكم بغير ما أنزل الله، وبالتالى فإن المشكلة في الفهم والثقافة بالدرجة الأولى. وأكد الحاجة إلى وقت ليس بالقليل لإعادة ضبط المفاهيم من خلال الحملة المباركة التي يقودها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده ضد منابع الأفكار المتطرفة التي أعاقت حركة التنمية والإصلاح الاجتماعي لعقود من الزمن.