في الحضارة البشرية تستوقفنا محطات عديدة وعظيمة، فالمصريون يتغنون بتاريخهم الفرعوني المتأصل في نسيج التاريخ الحضاري لبني الإنسان، بأهرامهم وأبي هولهم. اليونانيون أيضاً يتباهون بأعمال أفلاطون وسقراط وأرسطو وطاليس، وإرث التاريخ الإغريقي غني عن التعريف، فهم رواد الفلسفة الإنسانية وأول ديموقراطية عرفها الإنسان. كما يتفاخر العراقيون بقدمائهم البابليين والآشوريين، كما وبالحدائق المعلقة وأول حضارة عرفت الكتابة في التاريخ. كما لا يخفى على أحد صيت الحضارة الرومانية وآثارهم الصامدة في روما وبقايا سلطانهم الممتد من بريطانيا غرباً حتى قسطنطين شرقاً، كل هذا وأكثر مضى في تاريخ حضارة الإنسان خلال 7 آلاف سنة. في ضوء الاكتشاف الأخير في صحراء النفود ببلادي الحبيبة، عثر على بقايا عظام بشرية تعود لأكثر من 85 ألف سنة، حيث إن هذه البقايا حيّرت العلماء لأنها أثبتت أن الجزيرة العربية كانت مأهولة خلال الفترة المعنية، وذلك على غير ما اعتقد سابقاً، فقد كان المتعارف عليه في علم Paleontology أو علم الحفريات أن البشر لم يقطنوا الجزيرة العربية إلا قبل 60 ألف سنة! هذا الاكتشاف يؤكد حجم الإرث البشري والمكوّن التاريخي الحضاري الذي تحمله المملكة، كونها تقع في وسط أقدم مسرح لملحمات تاريخية متجذرة قصصها في الكتب السماوية وكتب التاريخ، ففيها سار إبراهيم عليه السلام إلى مكة بأمر من ربّه، وإليها التجأ موسى عليه السلام وقومه من بطش فرعون وقومه وعبروا فالج البحر، وبها ناصح صالح عليه السلام قومه. كما كانت الجزيرة العربية أرض نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ومنبع رسالته الشريفة لكل البشر، ومعالم تلك الرحلة العظيمة، من غار ثور لحراء لجبل أحد لطريق الهجرة لبادية حليمة السعدية مرضعته عليه أفضل السلام إلى شجرة البيعة والحديبية وخندق الأحزاب والقائمة تطول. وما شجّعني أكثر على كتابة هذه السطور، هو استشعار حجم هذا الإرث وفوائده المعنوية والمادية من قِبل القيادة الرشيدة، ممثّلة بمولاي خادم الحرمين الشريفين عاشق التاريخ الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- وولي عهده الأمير الشاب الطموح محمد بن سلمان -حفظه الله- ورئيس هيئة السياحة والتراث الوطني الأمير سلطان بن سلمان -رعاه الله- لهذا الكنز الثمين، فخلال زيارة الأمير محمد بن سلمان الموفّقة لفرنسا مؤخراً ومن ضمن العديد من الاتفاقيات التي هندسها سموّه مع الطرف الفرنسي، لفت انتباهي اتفاقية مع هيئة التراث الفرنسي، على إنشاء مركز أبحاث تاريخي وأثرى في العلا، وتدريب أكثر من 150 سعودياً في مجالات السياحة والثقافة. أرى في هذه الخطوة الحميدة لَبَناتٍ أولى لحقبة جديدة تدفع بالمملكة على رأس الدول ذات الحظوة التاريخية والإرث الحضاري الوطني المشرّف.