بعد كل ما أنجزه في رحلته مع الشعر، منذ صدور ديوانه الأول «هجير» قبل (35) عامًا، وحتى اللحظة، يقف الشاعر والكاتب إبراهيم طالع الألمعي ليقول لنا إنه ليس من «عبيدِ الشعرِ من الرائعين الذينَ تستعبدهم الكلمة الشاعرة ولو على حساب أهليهم وقومهم ومتعة الحياة»، معترفًا بأن تفكيره أثناء الكتابة يكون في الناقدَ، واصفًا إياه ب»الرقيب السيئ»، محملا إياه وزر تحويل شعره إلى «العقلنة والفَكْرَنَة أو حتى الجفاف، غير أنه يمتدحه أيضًا بالإشارة إلى أنه علمه «الإيغالِ والتّدْوير» للعبورَ إلى المتلقِّي بمغافلة الرقيبُ.. الألمعي لم يخرج من كل الملتقيات المنتديات التي حضرها داخليًا وخارجيًا إلا ب»الحب» فقط، و»لقاء النّخب الثقافية».. وينظر إلى الانفجار الإعلامي ومخرجاته بعين الريبة، ويرسم أفقًا غائمًا لمستقبل الشعر.. كل ذلك وغيره في سياق إجابات الألمعي في هذا الحوار.. بقايا مدينة * على خلاف السائد من عشق الناس لمساقط رؤوسهم، ليس بك حب لأبها.. بل هواك باريسي وجزائري.. أليس في ذلك خيانة لذاكرة النشأة والطفولة ولأبها تحديدًا وقد غازلتك بجائزتها مرتين؟ أولا: مسقط رأسي ليس أبها التي كانت بهية ولم تعدْ (أبهى)، بل هو (ألمع).. ثانيا:أبها (إيفا) تمَّ هدمها منذ عقود، ووضعتْ على أنقاضها صفائح (الأسمنت) والحديد الصّدئات، ولم يبق منها سوى بقايا. وغنائي - حين أغنِّي لها - هو ل(أبها) التي أعرفها لا التي أعيشها مرغمًا. وجائزتها حين منحتني مرّات كانتْ تعاشقا بيني وبين تاريخها منذُ خطواتِ الأزدِ الأولى على هذه الجزيرة، ومنذُ تعاشُقِ (بلقيسها مع الملك سليمان وهدهده)، ولعلمها بمحاولتي الانتصار لها حتَّى كثُر اتِّهامي بالشوفينية والمكانية حينَ قررت في معظم ما أكتبه أنَّ كلَّ مكان في الكون عالميّ، وبالتالي فمكاني عالميّ لا ينقصُ عالميّته سوى زفَّةِ الإعلام الذي يشبهُ الفَرَاشَ حينَ يرى نارا.. أبها كانتْ أوطانا قبلَ أن ينتقلَ مصطلح (وطن) إلى مصطلح (دَولة)، فالناس هنا حتى اليوم يسمون كل تجمّعٍ سكَّانيّ متلاصق وطنا.. ومنْ هنا كانت جذور شدّة عشقنا لمصطلح (الوطنية) التي لا تعني المصالح السياسية بمقدار ما تعني تعاشقنا مع التراب والجذور.. أما عشقي (باريسَ) فقدْ كان ولمْ يعُدْ.. كان حينَ كانت عاصمةً للنّور، ولمْ يقدَّرْ لي العيشُ فيها آنذاك، حتّى صارت اليومَ شبهَ عربية لكثرة غزونا لها، فقرَّرتُ خلق (بواريسي) هنا داخل الأرض، وخلقَ جِنِّيْ وعالمي بمشيئتي حيثُ أكون.. وفي الجزائر عِشْتُ بقايا مليون ونصف المليون من شهدائها، فتعلمتُ منهم كيفَ يطبقُ المرءُ يديهِ على ترابِ أرضه ويغوصُ فيها كلَّما اشتَدَّ عليها كَلَبُ المتكالبين.. بمعنى عشقتُ فيها الإصرار على الحرِّيّة.. إقليم مظلوم * 35 عامًا مضت منذ صدور ديوان الأول «هجير».. فهل ما زالت منك بقيّة فيه؟ ما دام هناك هجيرٌ للتهايم، فهجيري لا يزال.. و(هجير..) نابع من هذا.. ولا أجدُ كلماتٍ يمكنها العبور من ديار الهجير كيْ تكونَ سلسبيلا سهلا على كلِّ عين.. إقليم (تهامة) من مكّة حتَّى (عدن) يجمع بين الهجير والانسياب الثّقافيّ الخاص، ولمْ يُظْلَمْ إقليمٌ في عالمنا العربي كما ظلمت تهامة عبرَ القرون باتِّجاه التاريخ إلى خارجِ جزيرتنا، وتشكُّلِ ما أسميناه عواصمَ النّور في ذلك الخارج، وبقيتْ منابعُه خارجَ التاريخ. فنبيّ الإسلام الذي غيَّرَ خارطةَ وجهِ العالم تهاميّ، وما تراه اليومَ - بعدَ الحرِّيّة التواصليّة - بدأ ينتصرُ لهذا التاريخ المهاجر، وبدأتْ كلُّ أقاليمِ جزيرة العرب ترى النور.. حياة شاعرة * كيف استطعت عبور المسافة بين «مزاجية» الكتابة الشعرية و»واجب» الكتابة الصحفية الراتبة؟ لستُ عبدا من عبيدِ الشّعرِ المخلصين له، فالنبضاتُ الشعرية الكتابية جزء من حياتي الكلّية الشعرية؛ بمعنى: أنني أشعرُ بأنّ الحياة كلها شاعرة: بالكلمة وبالفعل.. ركضي في جبالي وأوديتي ومزارعي، وليالي السمرِ في صفوف قومي، وحياتي في داري، وجلوسي في مكتبتي، وكتابتي - حين تتاحُ لي -، كلُّ هذا لديَّ هو نوع من الشاعريّة.. عكسَ عبيدِ الشعرِ من الرائعين الذينَ تستعبدهم الكلمة الشاعرة ولو على حساب أهليهم وقومهم ومتعة الحياة.. رقيب سيئ * من يشاغبك أكثر أثناء الحالة الكتابية: الناقد، الناشر، المتلقي..؟ في الشعر أشعر بأنَّ الناقدَ هو رقيبي السّيئ جدًا، حتى قيل عن شعري إنه شديدُ العقلنة والفَكْرَنَة أو حتى الجفاف، لكنّ هذا قد يعودُ إلى اختلاطِ الفكريّة التي شُحِنَّا بها تعليميا مع طبيعة الحياة التي عشناها ونعيشُها، وأنا لستُ ممنْ يحاولُ تسليسَ حياة ليستْ بالسّلسة، بلْ لها الحقُّ في التعبير عن كُنْهِها، باعتبار الشعرِ تاريخا لحياة وزمن ومكان.. أما في الحالات الكتابية الأخرى، فأجد الرَّقيبَ هو منْ علَّمَني نوعًا من الإيغالِ والتّدْوير حتى نستطيعَ العبورَ إلى المتلقِّي دونَ أن يستطيع الرقيبُ - الجاهل غالبًا - قراءة ما نكتبه، وقد استطعتُ هذا كثيرًا - رغمَ مراحلِ الإيقاف الخمسة التي مررتُ بها-، وحتَّى اعتدتُ على الكتابة الموغلة واتُّهِمْتُ بأن كثيرا من القراء لا يفيدون مما أكتبه، أما الخاصّة فبدأ الكثير منهم يبدي إعجابه متأخرًا بما كتبته في بعض الدواوين والكتب مثل (هجير - سهيل امْيَماني - الموتُ إلى الداخل - توبة سلَفِي...). الحب فقط * بم خرجت من مجمل مشاركاتك في الملتقيات والمنتديات والأمسيات داخليًا وخارجيًا؟ خرجتُ بالحب فقط، وهو كافٍ جدا.. ففيها لا أجدُ نفسي مفيدا فنِّيا بمقدار إفادتي بلقاء النّخب الثقافية، ولستُ من النوع الجيِّد الذي يفيدُ كثيرا من الآخرين سوى رقيّ العلائق الإنسانية على مستوى النّخبة... جرأة استثنائية * حقق كتابك «توبة سلفي» أعلى مبيعات في معرض الرياض الدولي للكتاب.. هل ما زال سوق الجرأة رائجًا؟ نعم حقق ذلك، وانتهت طبعته، وعرضتْ عليّ دار (طوى) إعادة طبعه أو التعديل فيه بالزيادة، لكنّ الظرف لم يسمح لي حتى الآن بهذا.. أما عن سوق الجرأة، فمنْ أقداري أنّ كثيرًا من كتاباتي تكون جريئة جرأة غيرَ معهودة على المستوى الرقابي، ثمَّ أتلقّى ضربة الرقيبِ حينَ يصحو أو يجدُ من يقرأ له، ثمَّ تصبحُ هذه الكتابة عاديّة لدى الرقيب وعامة الناشرين، لكنْ بعد أن أكون أخذتُ نصيبي من الرقباء جلْدًا بالإيقاف وقطع الاستكتاب. انفجار الحريات * تقول في تغريدة لك «في عالمنا الثالث أُطلق الإعلام فانفجر المكبوتون يناقشون القضايا الكبرى على طريقة مشجعي الأندية الرياضية.. وصار الكذب والنفاق إعلامًا!!».. هل غاب عنك أن الأمر ليس مقتصرًا على العالم الثالث أم هو «جلد للذات»؟ كلّ فعلٍ له رَدّتُه المساوية له قوة والمعاكسة اتّجاها.. بمقدار ما كانت الحريات في عالمنا مكبوتة بمقدار ما سترى ردود فعل الانعتاق من الكبت أشد.. والفرقُ بيننا وبين العالم المعتق منذ قرنين تقريبا هو: أنهم واضحون في إعلامهم (البراغماتي)، أما نحن فتختلطُ هذه بما نعتبره قيَما، ويدّعي الكثيرون قِيمتهم وحدهم، بينما هم إما تابعون موظّفون منفّذون، أو متسلقون للبحث عن الذات. والانفتاح الذي نراه متواليًا يوميًا يفضح ما كان مستترا.. أتذكرُ كم انْجذَبنا إلى إحدى الفضائيات التي تدَّعي الاستقلالية والمهنية والحياد وأنها منبر من لا منبرَ له، كيف انكشفت بقدرة قادرٍ إلى قناة ارتزاقٍ وظيفيٍّ لكلّ من هبّ ودبّ، وإلى تبعيّةٍ مباشرة لمالكها وليِّ نعمة الدّرهم؟؟!! كلّ قنوات العالم ووسائل إعلامه تتبع ذويها وتتحدّثُ باسمهم وباسم مصالحهم وتوجهاتهم، لكنّ الفرق أنها لا تكذبُ كإعلامنا وتدَّعي الاستقلالية والحيادية إلا إذا كانت كذلك فعلا.. ثمَّ انظرْ إلى وسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا الثالث عندما وجدتْ ضوءا من الحرِّيّة كيفَ ينبريْ لكَ فيها من لا يتقنُ حتى القراءة والكتابة لينسخ لك ما يعلمك به أمور دينك ودنياك، ولو طلبت منه قراءة ما نسخه لك لما أتقنها!! وبالتالي أجد فعلا أن الانفجار في الحرّيّات في عالمنا الثالث سيكون انفجارا أخلاقيّا سلبيا لا سبيل إلى لملمته سوى بالصبر على عبوره عقودا طويلة... رهان زمكاني * على أي رهان ترتكز في تجربتك الشعرية ماضيًا وحاضرًا؟ على رهان المكان والزمان.. فأنا أمثِّلُ تركيبا من مكاني وزماني، ولا أتبع غيري، والعبرة في تفرّدك بتمثيلك الحقيقي لمركَّبِ (زمكانيّتِك) لا باتّباع غيرك في زمن أو مكان آخرين. أنت نقطة من نقاط هذا الكون والدهر، فمثّلْ نقطتك ولا تحاول التخطِّي قبلَ هذا، إلاَّ إذا كنتَ مبدعا متناسخًا من شامٍ أو يمنٍ أو مصرٍ أو مغرب.. وليست القضية في معايير الإبداع أن تقاسَ بغيرك في أزمنة وأمكنة أخرى... خارج الزمن * أي حظ بقي للشعر لكي يقاوم حالة الموت السريري / المنبري اليوم؟ كحظِّ اللغة العربية الذي تراه في تعليمنا وفي كثير من أساتذتها في الجامعات والتعليم العام.. وكحظّ الجمهرة التي تراها في تدنِّي الذوق العام الذي تمثِّلُه الأغاني الهابطة المعتمدة على ديكور المغنِّي، والتي لا تستطيعُ استيعاب ما ستشدو به شعرًا إلا بمن يشرحُ لها معنى الكلمات.. وكحظّ وزارات الثقافة التي يتولاها في عالمنا العربي من علاقة له بالثقافة.. وكحظِّ الأندية الأدبية (التي أنا عضو مجلس إدارة أحدها) والتي تعيش الآن خارج الزمن محنَّطَةً لا داعيَ لوجودها في زمن كان يجبُ فيه أن تستبدلَ بمراكز ثقافيّة شاملة في المناطق، وتوزّعُ ميزانيات الثقافة عليها لتنتج ثقافاتٍ لائقةً بالأمكنة وبالتالي لائقة بالوطن.. ذائقة خشبية * حملة الأختام ما زالوا يحرمون «قصيدة النثر» من حظ الانتماء.. فأين العلة؟ قصيدة النّثر أخذت موقعها، ولها رموزها.. غير أن الانفجار الإعلاميَّ أيضًا سحب البساط من تحتها، فكثير من التغريدات الفنِّيَّة صارت تتقاطع معها، وكثير من الكتابات كذلك.. وبقي الشعر بشكل أو بآخر هو سيد الساحة الشعرية مقارنة معها. والذين أحرموها بالمطلق من الانتماء سابقًا يشبهون من كان يحرمني ويحرمك من الانتماء الإسلامي مثلا ويصرُّ على انتمائه وحده إليه. غير أن الزّمن أيضا هو الحكم. وحكم بعضهم ينبني على الذائقة الموسيقية وإن كانت خشبية جوفاء.. أسماء إعلامية * أما زلت على قناعتك السابقة بأن شعراء تهامة أكثر عالمية من شكسبير؟ كما أسلفتُ لك: لو اقتنعتَ بقراءة شاعر في الشمال أو الجنوب قراءة جيّدة مقنعة لاكتشفتَ أنَّ أسماء (شكسبير) أو (دانتي) أو (هوجو) وغيرهم إعلامية، وليس جوهر شاعريتها هو من جعلها أفضل منك. شاعرٌ من تهامة، أو من الشمال أو الشرق هنا أو الغرب يعبِّرُ عن مكانه وزمانه فنِّيّا هو كأولئك مع فارق الإعلامية، ولو سخَّرْتَ لصاحبي (ابْرِ صيَّاد) - الذي كان رفيقي أثناء الكتابة عن الصعْبِ – لو سخّرت له ما سخِّرَ لأولئك لطغى عليهم. هذه قناعتي: أنك متنبي زمانك حين يتاح لك من ظروفك ما أتيح له من ظروفه، وشكسبيرُ أرضك طالما أوصلك إعلام كإعلامه...