يُحكى أن.. شاباً ورث عن والده المال والجاه.. يكبر إخوته وهو لا يزال في منتصف عقده الثاني.. سار في طريق والده.. يعمل ويجتهد ويكافح.. ويُبقي تلك السمعة الطاهرة.. يبحث عن الحكمة والخير والنزاهة والعدل والوفاء.. يختار من أصدقاء والده من يعينه على الثبات ومواجهة محن الحياة وآلامها .. أنهى الإخوة دراستهم.. وانضموا إلى أخيهم ومن رعاهم.. يقدمون له الاحترام والطاعة.. ويجدون فيه الأب والأخ والصديق.. سارت بهم الدنيا.. تأخذ منهم وتعطيهم.. حتى أصبح كيانهم كبيراً بهم.. كثيراً بعملهم وتضامنهم.. تزوج البنات.. ولحق بهم الأولاد.. وصاحبنا ينتظر حتى تكتمل فرحتهم.. سعادته في ابتسامتهم.. وأمله في آمالهم.. وألمه في حزنهم.. يمرض لمرضهم.. ويفخر بصحبتهم.. جلس عند قدمي أمه يوماً.. نظرت إليه.. بعين الرحمة والعطف والمحبة والبر.. ودار بينهما الحوار التالي: قال: هل أنتِ سعيدة يا أماه؟ قالت: وكيف لا يسعدُ من عنده مثلك؟ بارك الله فيك.. وبارك الله لك.. فقد وفيت. قال لها: أنتِ يا أمي من أوفى.. وأنت من صبر.. تضيق بي السبل.. فأكون فارساً بجوارك.. تحيط بي المحن.. فأكون مطمئناً بك.. أنت الناصحة المُحِبة البارة.. جزاكِ الله عنا خير الجزاء.. فلولاكِ ما كان ما يكون.. فقد علّمتكِ الأيام وألهمكِ الله رشداً.. فكانت عاقبتُنا بفضله تعالى خيراً وبراً. قالت: ألم يأن لك أن تتزوج؟! فقد امتد بك الصبر.. واقترب مني الرحيل.. وأريد أن أرى بيتك وسعادتك.. قال: هذا بيتي وهذه سعادتي.. وأنت ابتسامتي ونور طريقي.. قالت: افعل يا بني.. فقد حان الوقت بعد أن حقق الله لنا هذا الاستقرار.. وأصبحنا جميعاً في خير.. بفضل الله تعالى.. ثم بجهدك وصبرك ومثابرتك.. خرج وقد قرر.. استشار من بقي من أصدقاء والده.. فقال أحدهم: إن فلاناً له ابنة سمعت عنها.. عن ذكائها وحلمها وعلمها.. وإني أخاف أن يردنا عنها لصغر سنها.. وقد رحلت أمها وهي في السادسة من عمرها.. وعكف والدها على تربيتها.. ورفض أن يقترن بأخرى إكراماً لها.. ولكن لا ضير من المحاولة. استأذن أمه في خطبتها.. وتزوج صاحبنا.. عقلاً وجمالاً وحكمة وعلماً.. خُلقاً وكرماً.. ديناً وحياءً. أصبحت قرة عين والدته.. احتوتها بحنانها وعطفها.. وبادلتها باحترامها وراحتها .. مع الأيام أصبحت السيدة الأولى.. وهو الزوج.. الأب.. الصديق.. الأخ.. الابن.. الحبيب للجميع.. أتاه أحد إخوته يوماً مطالباً بحقوقه يريد أن يكون ذاته.. مدعياً أن هذا المطلب يحقق الأسلوب العصري للعمل، منتقداً كل الأساليب المعمول بها. حاول أن يحافظ - بقدر ما أمكن - على إنسانيته.. ملتمساً له العذر ومبرراً الدوافع.. متفهماً لمسببات مسلكه.. ولكنه رأى أنه أمام إصرار وثبات. بخبرته وبماضيه.. استنتج أن هذا لا يصنعه إلاّ النساء في قلوب الرجال.. حاول أن يكون جاهلاً غبياً.. محتملاً لتلك الترهات.. اجتمع مع إخوته.. وبحضور أمه.. ليعرض عليهم الرأي.. انفجر الجميع.. كل يريد لنفسه ما أراده أخوهم.. كل يريد لنفسه أن يخرج من هذا القمقم. نظر إلى أمه.. وقد تغيَّرت ملامحها وانتصبت واقفة.. لتضع حلاًّ لهذا الجديد عليها.. قالت لهم جميعاً: (اسمعوا ما أقول لكم.. إني أنسحب من معركتكم هذه.. ليس جبناً مني ولا ضعفاً.. ولكنها حكمة العاجز). وأسلمت روحها.. يرحمها الله.. وتفرق الجمع وانهار الكيان.. وتحصل كل منهم على نصيبه. تدور الأيام.. وتنقضي الحياة.. والديَّان لا يموت.. هل للحديث بقية؟!