استحوذت اضطراباتُ المجتمع الوظيفي ومشكلاتُه الإدارية على اهتمامي منذ سنوات، نتيجة تجارب شخصية ومعلومات موثّقة، وعدد كبير من القصص والأحداث والمُشاهدات، التي تُشير إلى خللٍ واضح في المنظومة الإدارية، والتنظيمية، والأخلاقية، والسلوكية، للبيئة الإدارية في معظم المؤسسات، وما ينتج عن ذلك من تدهورٍ عملي وتأخّرٍ حضاري، يؤثر بشكل سلبي على الحقوق والواجبات الوظيفية، ويفتحُ المجال واسعًا لمزيدٍ من مظاهر الفساد الإداري كالاستغلال الوظيفي، وانتشار الواسطة والمحسوبية وإهدارِ الأوقات والأموال وضياع الحقوق أو تأخّرها. وجاء في تعريف «منظمة الشفافية الدولية» للفساد الإداري أنه: «كلُّ عملٍ يتضمّن سوء استخدامِ المنصب العام لتحقيقِ مصلحةٍ خاصة ذاتيةٍ لنفسه أو جماعته». وتكمُن المشكلة في اجتماع عددٍ كبيرٍ من الناس وتوافقهم على انتهاج طرق الإفساد الإداري، وتبنّي أساليب العبَث النظامي، ليُكوّنوا بذلك منظومة مُتّصلة، وسلسلة طويلة من الإجراءات الشكلية البيروقراطية، يقف خلفها موظفون فاسدون سلوكيًا، يُديرونها لمصالح شخصية بشكل يكاد يكون مُمنهجًا، من كواليس ودهاليز وردْهات سرية، يعلم جميع المرتبطين بها بوجودها وحقيقة عملها، حيث تُعد المحرّك الأساس للعمل والمتحكّم الرئيس في تسييره بحسْب رؤيتهم، ليصبح الفساد الإداري هو المقبول عُرفًا وسلوكًا لديهم، عوضًا عن التنظيمات العادلة والقوانين غير المتحيّزة، التي تتبناها الهيئات المُشرِّعة. ومع اهتمام الجهات المعنية بهذه القضية المصيرية، إلا أن واقع الحال يُشير إلى ازدهار مجموعاتٍ كبيرة تقتاتُ على إساءة استخدام المنصب والسُّلطة، ومنظومةٍ فاسدة غاية في التعقيد، ويحكي تراخيًا واضحًا في تطوير البنية الأساسية للإدارات، وتكريس آليةٍ مركزيةٍ جامدةٍ قاتلة، وتكاسلًا عن تطوير أنظمةٍ تحفظ الحقوق والواجبات الوظيفية وتحرص على إعطاء الأوّلية لتولية القوي الأمين وأصحاب الكفاءات في المجالات والمناصب المُختلفة، عوضًا عن الأقارب والمعارف وأصحاب الولاءات الشخصية، نتيجة قصور أدوار جهات تنظيمية ورقابية وقنواتٍ إعلامية فعّالة في حصار مُمارسات الفساد وتحسين البيئة الوظيفية بما يضمن الصالح العام، والقضاء على مظاهره السلبية، التي تقوّض هياكل المؤسسات الحكومية والخاصة، وتستخدم الموارد العامة لتحقيق مصالح شخصية أو جماعية غير مشروعة.