«اللهم عليك بالكفرة واليهود والنصارى والمرتدين... اللهم اقضِ عليهم... اللهم دمرهم تدميراً... اللهم رمّل نساءهم ويتّم أطفالهم وخرِّب بيوتهم وجمِّد الدماء في عروقهم أجمعين»! لايزال هذا الدعاء، بلفظهِ كثيراً، وبتنويعات وإضافات واسعة عليه أحياناً، الدعاء المفضل في رمضان لكثيرٍ من أئمة العرب والمسلمين. ومع ارتفاع نسبة الخطوب والكوارث والمآسي التي تزداد باضطرادٍ غريب في كثير من بلدانهم، يُؤمِنُ الأئمة فيما يبدو أن الدعاء المذكور يمثل الطريقة الأمثل، وأحياناً الوحيدة، للتعامل مع تلك الكوارث وأصناف البلاء. لكن المصيبة تكمن في أنهم يُغرقون معهم ملايين المسلمين في هذا الاعتقاد. لم ينشأ هذا من فراغ. فبمراجعةٍ سريعة لعنوان الدعاء على الكفار والنصارى واليهود وغير المسلمين من كل صنفٍ ولون، يجد المرء ذخيرةً عامرةً ومدججةً بالفتاوى المتعلقة بالموضوع في كتب المسلمين التراثية على اختلاف أنواعها وتواريخها وكُتَّابِها. وإيرادُ بعض الأسماء القليلة، كأمثلةٍ هنا، يأتي في معرض الخروج من اتهام الكاتب بالافتراء دون دليل. ويكفينا القول في هذا أننا نَدعُ أمرهم إلى الله كبشرٍ يُخطئون ويُصيبون، دون أن يعني هذا إضفاء قداسةٍ عليهم تمنع نقد أفكارهم، أو حتى مجرد الإشارة إليها وإلى أصحابها. يقول القرطبي مثلاً: «أما لعن الكفار جملةً من غير تعيين، فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: «ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان «. واستنبط الحافظ في الفتح الدعاء على المشركين بالتعميم من قصة خبيب بن عدي، حيث دعا: «اللهم أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولاتُبق منهم أحداً». فقال: وهي دعوةٌ في زمن الوحي ولم تُنكر، والعبرة بعموم لفظها لابخصوص سببها». وقال الحافظ بن عبد البر في شرحه لحديث الأعرج: «فيه إباحة لعن الكفرة، كانت لهم ذمةٌ أولم تكن». وقال الحافظ أبو العباس القرطبي المالكي: «ولا خلاف في لعن الكفرة والدعاء عليهم». هذا فضلاً عن أسماء كبيرة في مجال الفقه والفتوى، في الماضي والحاضر، قالت ولاتزال تقول بهذا الحُكم، ولانريد الاستفاضة في الحديث عنها خروجاً من مماحكات نظرية ستحرف الحديث عن مُراده. لايزال هذا يحدثُ رغم كل ما في الدعاء المذكور وحواشيه الأخرى من قسوةٍ وغلظة. ورغم تناقضه مع تعاليم الإسلام الأصيلة، وكل ما فيه من تعميمٍ بحقّ الملايين من شعوب وأقوام قد يوجد فيها من يسيءُ للمسلمين ويريد بهم الشر والأذى. لكن فيها أيضاً شرائح واسعة إما أنها محايدة كلياً، أو أنها لاتوافق على السياسات التي تسبب ذلك الأذى. ها نحن مرةً أخرى مع ثقافةٍ لاتبدو لها علاقة من قريبٍ أو بعيد بإثبات قدرة الإسلام على أن يكون {رحمةً للعالمين}، وتحدياً في شهر الرحمة والمغفرة والتوبة والبركة! المؤلم أكثر أننا حين نقارن الدعاء السابق بالدعاء الجميل الذي يستمطرُ الرحمة والخير على أطفال المسلمين ونسائهم ورجالهم في نفس القنوت، فإننا نرى ملامحَ عنصريةٍ إنسانيةٍ لا تليق لا بإسلامٍ ولا بمسلمين. حتى وإن غطّت نفسها بثوب الدفاع عن المظلوم والدعاء على الظالم. إن التعميم الوارد في مثل هذه الأدعية يحصر كل إرادةٍ للخير في دائرة المسلمين. في حين يصبح الآخر بأطفاله ونسائه هدفاً لدعاء الإبادة والإلغاء والفناء، بأقسى ما يتوفرُ من الأشكال والأساليب، وبكل ما يمكن للقلب أن يحمله من معاني الكراهية والتشفّي والانتقام. وتنبع المشكلة دائماً، في الإسلام هنا، كما في غيره من الأديان، حين يُبالغ أهل دينٍ محدد في التعلق بخصوصيات دينهم والتأكيد عليها والتمحور حولها نظرياً، وحول مقتضياتها عملياً، مع اعتبار كل من لايفعل ذلك في هذه الدنيا إنساناً لايستحق الحياة. ويتطور هذا تدريجياً حتى يبلغ درجة الوقوع في مأزق القوقعة والانعزال عن العالم، وما يمكن أن ينتج عن هذا من سلبيات داخلياً وخارجياً. وأسوأ هذه النتائج يتمثل في صياغة خطابٍ منغلقٍ على ذاته وعلى خصوصياته، لا يملك أهله القدرة على فهم هذا العالم بشكلٍ صحيح، ولا على التعامل مع تعقيداته ومتغيراته وقضاياه، فضلاً عن احتمال التعايش معه بأمنٍ وسلام. وعندما يعجز هذا الخطاب المنغلق عن فهم الدنيا والتعامل معها بنديةٍ ومهارةٍ وفعالية، يلجأ إلى خطاب الإلغاء الشامل للآخر. بدءاً من إشاعة مثل تلك الأدعية في أوساط المسلمين، وانتهاءً بظهور شبابٍ متحمسٍ منهم يأخذ على عاتقه المساهمة عملياً في ذلك الإلغاء. واسألوا أهل (مانشستر).