في كل مناسبة يكرمني الله فيها بزيارة طيبة الطيبة ،أستعيدُ صوراً من المدينة القديمة بشوارعها وأزقَّتها وآثارها التي تعود إلى الحقبة التي هاجر فيها خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه ،وقد فقدت المدينة الكثير من هذه الآثار والشواهد المرتبطة بأحداث السيرة المباركة ،وكانت إزالة البعض منها يقتضيها عامل التطور العمراني الذي شهدته المدينة منذ بداية هذا القرن مثل حي الأغوات واسمه التاريخي حي بني الحسن ،وكان يضم نقوشاً أثرية هامة ،وكان بالإمكان الحفاظ على البعض الآخر مثل سقيفة بني ساعدة والتي تمثل أول مجلس شورى أو برلمان في تاريخنا الحضاري ،وكذلك دار أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه -والتي حل فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم نزيلاً عندما وقفت به ناقته القصواء في رحالها ،حيث أقام بعد ذلك مسجده الطاهر، ولم يكن بعيداً عن تلك الدار الأثرية موقع مكتبة عارف حكمت التي جمع لها هذا الرجل أندر وأنفس المخطوطات التي تبرهن على مساهمة الفكر العربي والإسلامي في الحضارة العالمية، على عكس ما تسعى إليه التيارات الدينية المتطرفة من رسم صورة قاتمة عن تاريخنا المليء بالشواهد الحضارية والفكرية ومن أهمها ما يعرف بوثيقة المدينة والتي تعتبر أول وثيقة حقوق إنسان في العالم باعتراف العديد من المستعربين والمتخصصين من الغربيين في الدراسات العربية والإسلامية. ويقتضي السياق أن أشير إلى ذلك الفن المعماري الرفيع الذي يعكس أيضاً ملمحاً من ملامح الحضارة العربية والإسلامية في صورتها الزاهية ،وكان بالإمكان -آنذاك- نقل تلك الشواهد المعمارية والنقوش التي يحتوي عليها بناء تلك المكتبة والتي اعتبرت من أكثر خزائن الكتب العالمية، وأتذكر أنني اطلعت فيها على مخطوطة أنفس كتاب جغرافي علمي وهو المسافات وصور الأقاليم لأبي زيد البلخي. وإنني على يقين من اهتمام المسؤول الأول في المدينة سمو الأمير فيصل بن سلمان بالحفاظ على آثار وشواهد التاريخ الديني والحضاري والفكري لعاصمة الإسلام الأولى وخصوصاً بعد اختيار المدينةالمنورة عاصمة للسياحة الإسلامية. وفي لقائي الوحيد بسموه عند تعيينه أميراً للمنطقة طلبت من سموه العمل على الحفاظ على موقع سقيفة بني ساعدة ، فهي تحكي تاريخاً وتروي سيرة .