يُعد الفيلسوف اليوناني (سقراط) عَلمًا من أعلام الفلاسفة عبر التاريخ إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، وهو صاحب المنهجَين الأخلاقي والجَدَلي اللذين لاقى في سبيل تقريرهما الكثير من العوائق؛ كونه أتى بما هو مخالف للسائد في تلك الحقبة اليونانية. غير أن الفترة الأبرز في تاريخه والتي أعطته النسبة الأكبر من شهرته الذائعة، ومنحته المزيد من التعاطف مع منهجه ومبادئه هي فترة محاكمته من قِبَل قضاة أثينا وحكمهم عليه بالإعدام وتجريعه السم حتى فارق الحياة دون أن يلجأ للهرب من السجن، على الرغم من تهيُّؤ الفرصة أمامه لكي ينجو بحياته. بدءًا لا خلاف على منهج سقراط، لكن ووفق ما يمليه المنطق السليم فإنه ينبغي النظر في سيرة صاحب المنهج وسلوكه ومصداقيته وصحة ما نُسِب إليه، وتمثله لمبادئه التي يدعو إليها على المستويات كافة، وعليه فالفلاسفة -ومنهم سقراط- ليسوا أنبياء ولا رسلاً حتى يكونوا أصحاب مبادئ غير متحولة أو مصالح غير ذاتية، ولذا نجد لهم -أي الفلاسفة- تحولات ومصالح تنسف كثيرًا من مصداقيتهم وموثوقية مناهجهم، ومن أراد الاستزادة عن هذا الجانب فليعد إلى مقال (الحياة السرية لمفكرين وفلاسفة...) في مجلة «الفيصل» عدد الشهر الحالي للصديق الدكتور متعب القرني وسيجد فيها صورة فاقعة للازدواجية التي يعيشها الفلاسفة. حينما نأتي إلى جانب الأخلاق والمُثُل والقِيَم نجد ألا مقارنة بين ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قيم الخير ومكارم الأخلاق وأدب الحوار-زد على ذلك تمثله التام لها- وبين ما عُهِد عن سقراط، ومع ذلك تجد الدهشة والتبجيل لدى البعض تأخذ أقصى مداها حينما يستحضرون ما دعا إليه سقراط من الأخلاق والقِيم مع أنه لم يتلقَّ وحيَ السماء ولم يترك أثرًا مكتوبًا، وكل ما وصلَنا عنه هو من كتابات تلاميذه وخاصة أفلاطون. يأتي الدكتور إبراهيم النجار في كتابه (مدخل إلى الفلسفة) ليؤكد أن «هنالك من الفلاسفة من يعتبر أن سقراط ليس سوى شخصية أدبية رمزية أبدعتها مخيلة أفلاطون بما فيها الحوار الذي يسمى الدفاع»، ومع هذا بلغ الإيمان بحقيقة سقراط عند البعض درجة لا يعتريها الشك، وأخذ منهجه لديهم من المُدارسة والتبجيل ما لم تأخذه رسالات الأنبياء والرسل، ولذا يأتي العجب من هذا الإيمان الجازم والتصديق الذي لا يقبل الشك بحوارات وحِكم ومحاكمة سقراط التي حدثت قبل الميلاد، ويفصلنا عنها ما يزيد على (2400) سنة في حين يطالب هؤلاء البعض -وهم محقُّون- بتمحيص التراث الإسلامي وغربلته وهو الأقرب زمنًا والأوثق نقلاً، في الوقت نفسه يقبلون بالتراث الفلسفي اليوناني على علاته. لماذا لا يشكل ما جاء به خاتم الأنبياء من قيم ومُثل وعدالة ومساواة وتحرير للإنسان من العبودية البشرية، ودعوته للتأمل والتفكر في الكون والحياة اهتمامًا لدى هؤلاء مقارنة بما يلقاه الفلاسفة من تصديق وموثوقية واهتمام واحتفاء مع أن الفارق بين الأنبياء والفلاسفة في حقيقة وجودهم وصوابية ما جاؤوا به ظاهر؟ ولماذا أخذت حكاية واحدة هي محاكمة سقراط وإعدامه لدى البعض مساحةً لم تأخذها القصص العديدة للأنبياء والمرسلِين الذين حُوكموا وعُذبوا، وبعضهم قُتِل في سبيل رسالاتهم العظمى ومبادئهم المُثلى؟ سيبقى سقراط عند مريديه فيلسوفًا مبجلًا محتفًى به وبمبادئه دون أن يخالط ذلك أدنى شك لديهم، ولن يسقط من ذاكرتهم، ويُشكَّك في موروثه ويصبح خاضعًا للتمحيص، قابلاً للنبذ، عرضةً للوصم بالرجعي إلا في حال ثبت (قطعًا) أنه نبيٌّ.!