أنطلق هنا من واقع تجربة شخصية، فقد كنت في إحدى حجاتي القريبة ضمن حملة تتخذ من إحدى عمائر مشعر منى الست مقراً لها، تلك العمائر أو الأبراح التي يراها من يفد إلى منى، وهي تَصْطَفّ في خيلاء فوق سفح جبل من جبالها، وتشرف على جسر الجمرات المتصل بها ضمن مساحة مسفلتة يقطعها المشاة إلى الجمرات الثلاث ذهاباً وإياباً في أقل من عشرين دقيقة. وتطل هذه العمائر أو الأبراج من على يسارها على صعيد منى الواسع، ومعظمه سهل منبسط تقريباً به كتلة كبيرة من المخيمات التي يأخذ بعضها بطرف بعض إلى نهاية امتدادها من الشرق بالقرب من وادي مُحَسِّر، بما ذلك الكتلة المعمارية التي بها مسجد الخيف، وبعض المباني والمرافق. كل ذلك يبدو للعيان في منظر يبعث على عظمة المكان ورهبته لمن يشاهده من خلال نوافذ تلك الأبراج وشرفاتها، وخصوصاً المنخفض المكشوف الذي يسلكه الحجاج من وسط منى إلى الجمرات. هناك ترى أمواجاً من البشر يسيرون على أقدامهم بمظلاتهم ذات الألوان البيضاء والحمراء والصفراء والسوداء والزرقاء، وهي تشكل لوحة متحركة بألوانها الأخّاذة التي تخلب الألباب، وتترك من الذكريات الجميلة في الأنفس مالا ينساه المرء في حياته. ولن أتحدث هنا عن مقدار الراحة والنظافة، ووسائل الأمن والسلامة التي توفرها تكل الأبراج، ولا عن السعة الاستيعابية لها التي تقدر بحوالي 25 ألف حاج، ولا عن رحابة المكان المتاح في الأدوار الأرضية المكشوفة لتلك الأبراج، واتصال بعضها ببعض، وهي توفر ساحات رحبة مفتوحة بفرشها الزاهي الألوان، وجلساتها المزودة بكراسٍ تراثية ذات متاكٍ مريحة، ثم مصلياتها النظيفة التي خصّصت لها أجزاء واسعة من الأدوار السفلى في كل عمارة، وخلاف ذلك من وسائل الراحة والمتعة التي لن أركز عليها في مقالي هذا بقدر ما سأركز بشكل خاص على الجانب النفعي المستقبلي في حالة مالو توسعت الدولة في بناء أبراج متعددة الأدوار على سفوح جبال مشعر منى، ذلك أن جبال منى تشكل ما نسبته 47%من مساحة منى كلها التي قيل إنها تتراوح مابين 6 إلى 8 كيلومترات مربعة، ثم ما نسمعه ونقرأه من أن النيَّة متجهة إلى زيادة عدد الحجاج إلى مكة لإتاحة الفرصة لكثير من المسلمين الذين يتوقون إلى تأدية هذه الفريضة في سهولة ويسر، وهذا ما نصت عليه رؤية المملكة العربية السعودية 2030م. ولن يتأتى استيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج إلا بالبناء الرأسي على سفوح الجبال، وبأدوار متعددة، وأنا على يقين بأنها ستكون أكثر راحة ونظافة وأمناً وأماناً وسلامة من الخيام الحالية وحتى من تلك الخيام التي يُقترح بأن تكون من دورين. وفي المقابل فإن التوسع في البناء الرأسي على سفوح جبال منى سيستتبعه التقليل من نصب الخيام التي ستتناقص الحاجة إليها رويداً رويداً في ظل هذه البدائل الإيوائية النظيفة والمستدامة، بل إنني أدعو إلى التخلص من الخيام، وخصوصاً تلك التي في الساحات السهلية المنخفضة، لكونها ومافيها معرضة للغرق حينما تجود عليها السماء بماء منهمر، وتتدفق عليها شعاب الجبال القريبة منها بسيولها المتلاطمة الأمواج، وهذا ليس بغريب على تهامة (ومكة تهامية كما يقولون)، فقد ثبت علمياً، وبالتجربة أن كثيراً من المواضع التهامية، ومنها مكة تتعرض لعواصف شديدة المطر في دورات جغرافية تقع مابين كل عشر إلى خمس عشرة سنة، لذلك أقتراح أن يسار إلى الاستغناء عن المخيمات بالبناء المسلح المتعدد الأدوار، وتوفير مساحة واسعة أو ساحات مكشوفة في سهل منى تكون بمثابة مركاز كبير ومفتوح لكل الناس، يُزَوَّد بعدد كافٍ من دورات المياه العامة، وبوحدات للخدمات السريعة (كِشْكَات) تقدم الشاي والقهوة، وبعض الوجبات الخفيفة، وتُؤَجَّر كراسي صغيرة للجلوس فقط لمن يطلبها بما يكفي لمئات الألوف من المتسامرين في ليالي منى، وأغلبهم أولئك الذين يأتون من مكة مساءً للمبيت بمنى، ثم يعودون إليها مع صلاة الفجر، فكلنا يعلم أن كثيراً من أهل مكة، ومن المقيمين فيها والقادمين إليها للحج فرادى من القرى والأرياف والبوادي القريبة هذا هو ديدنهم كل عام، وهم يقدّرون بمئات الألوف، وأغلب المفترشين منهم، ومهما عملت السلطات للحدّ من افتراشهم فإنها لن تستطيع القضاء على ظاهرة الافتراش إلا بهذه الطريقة، صحيح أنها تغلّبت على أولئك الذين كانوا يأتون بسياراتهم من خارج مكة، ويتخذون من الأرصفة أمكنة لهم يفترشونها طوال أيام التشريق، أما أولئك الذين يأتون من مكة إلى منى مساءً، ويعودون إليها صباحاً، فهؤلاء لا معالجة لهم إلا بوجود ساحات واسعة مهيئة يقضون فيها بعض ساعات الليل ليس افتراشاً، وإنما أيقاظا،ً ويمارسون حياتهم الطبيعية. أما من يحتجّون بكراهية البناء في منى، وأنها «مناخ لمن سبق» فيرد عليهم بأحكام الضرورة التي لا مفرّ منها، وأرجو من مشايخنا الفضلاء أن يجدوا المخرج للتغلب على ما سيواجه السلطات والحجاج من صعاب في مستقبل أيامهم حينما تتزايد أعدادهم وتتضاعف، هذا إلى أن منى كانت ضاحية من ضواحي مكة منذ فجر الإسلام، وكان بها بناء بعضه كان قائماً إلى عهد ليس بالبعيد قبل إزالته في عقد الثمانينات أو التسعينات من القرن الماضي. أما عن كونها (مناخاً لمن سبق) فهذا لا جدال فيه، ولكن هذا الحكم لم يعد قائماً في الوقت الحاضر لكون معظم المساحة الصالحة للإقامة في منى موزعة بشكل رسمي في حيازات أصغر توزع على أصحاب الحملات منذ وقت مبكر، وبها مخيمات عليها حراسات مشددة، ولايسمح لأي حاج مهما كان بموضع قدم في تلك الحيازات مالم يكن ضمن أفراد الحملة. فهل نرى جبال منى وقد إتَّشَحْت بسلسلة من الأبراج العالية، ونرى سهل منى وقد أصبح مركازاً كبيراً مفتوحاً أو مناخاً لمن يسبق إلى الجلوس فيه ليلاً، إننا لنرجو!!!