حقا الوقائع ايقن خبرا وأصدق فعلا من التوقعات، هذا ما اكدته التطورات المتلاحقة والدراماتيكية في اسعار النفط في الاسواق العالمية خلال الاسابيع القليلة الماضية. كانت كل التوقعات والترجيحات تشير الى انخفاض اسعار النفط العالمية خلال هذا الصيف بالنظر إلى توقع انخفاض في الطلب على النفط في الدول المستوردة من جهة، والزيادات المتتالية في انتاج الاوبك خلال هذ العام والتي وصلت الى 1,7 مليون برميل اضافة على السقف العادي لانتاج دول المنظمة من جهة اخرى، ولكن خلافا لذلك كله شهدت اسعار النفط ارتفاعا واضحا مع بداية العام 2000، ورغم الانخفاض الذي حدث في بداية شهر ابريل الماضي الا ان الاسعار ما لبثت ان عاودت الارتفاع منذ يوليو لتتجاوز مستوى 31 دولارا للبرميل, ولم يكد شهر سبتمبر يبدأ حتى ارتفعت الاسعار الى ارقام قياسية حيث تجاوزت حاجز ال35 دولارا للبرميل وهو اعلى سعر للنفط منذ حرب الخليج الثانية عندما ادت العمليات العسكرية لعاصفة الصحراء (يناير فبراير 1991) الى وصول سعر البرميل الى اكثر من 40 دولارا. وكان من شأن هذا الارتفاع ان يلقي بظلاله على الاوضاع في بلدان القارة الاوروبية المستورد الرئيسي للنفط في العالم، مما دعاها الى مطالبة الدول المنتجة للنفط في منطقة اوبك لزيادة انتاجها للحد من الارتفاع الجنوني للاسعار. آليات سعر النفط تجدر الاشارة إلى ان تطور آليات ضبط اسعار النفط العالمي على مدار القرن العشرين قد ارتبط بنضج الوعي لدى الدول المالكة والمنتجة للنفط في العالم خاصة الدول النامية بأهمية تطوير آليات فاعلة وبشكل مستمر للحفاظ على مصالحها في الاسواق العالمية للنفط. فمنذ عشرينيات القرن العشرين وحتى مطلع السبعينيات مثلت الاحتكارات والامتيازات للشركات الاجنبية (الغربية اساساً) في البلدان المنتجة للنفط اساسا لتشكل السعر في سوق النفط حيث احتكرت سبع شركات عالمية فيما سمي (بالشقيقات السبع) البحث والتنقيب والانتاج بغرض الحفاظ على اسعر النفط عند مستوى منخفض، الامر الذي انعكس بالسلب على الدول النامية المالكة والمنتجة للنفط من جراء انخفاض الاسعار العالمية لهذا المنتج، ولاسيما ان معظمها اعتمد عليها كمصدر رئيس للدخل القومي. ورغم انشاء الاوبك عام 1960 الا ان معاناة المنتجين للنفط استمرت حتى بداية عقد السبعينات مع حدوث ازمة النفط الاول عامي 73 1974، والثانية عام 1979 حيث اصبح زمام المبادرة في يد دول الاوبك وتم تطوير آلية جديدة لتشكل سعر النفط عالميا تقوم على اساس تحديد نقطة سعرية محددة للبرميل فيما عرف ب(سعر نفط الاشارة) وبالتالي حرصت دول الاوبك على الدفاع عن عدم هبوط سعر النفط من هذه النقطة التي تحددها هي من وقت لآخر هبوطا وصعودا حسب معطيات الاوضع من حيث الانتاج والطلب العالمي على النفط واستمرت هذه الآلية حتى عام 1998، حيث كان سعر الاشارة آنذاك عند 20 دولارا للبرميل). ولكن مع التدهور الشديد الذي شهدته اسعار النفط بسبب الازمة المالية الآسيوية عامي 97،1998 وصل سعر البرميل اوائل العام1998 الى 12 دولاراً مما كان يعني اقل مستوى للاسعار منذ تسع سنوت، ادى ذلك بدول الاوبك الى مراجعة تقسيم آلية النقطة السعرية المحددة، وبالفعل توصل مؤتمر الاوبك المنعقد في مارس 2000 الى آلية جديدة لتشكل سعر النفط في السوق العالمية تتسم بقدر معقول من المرونة بما يحفظ الاستقرار في الأسعار لصالح الدول المنتجة ولايضر في الوقت نفسه بالدول المستهلكة ويقلص من الآثار السلبية للمضاربات في سوق النفط العالمية. وتقتضي الآلية الجديدة لتجديد نطاق سعري للنفط ما بين 22 و28 دولارا للبرميل، بحيث يتم التدخل آليا في الاسواق من خلال زيادة اوانقاص الانتاج ثم حالة تحرك الاسعار خارج هذا النطاق السعري المستهدف (صعودا أو هبوطا) في حالة انخفض سعر البرميل عن 22 دولارا في الصيف تتدخل الاوبك لتقليص انتاجها بمقدار 500 الف برميل يوميا،وفي حال ارتفاعه عن 28 دولارا خلال ثلاثة اسابيع متتالية تتدخل لزيادة الانتاج بنفس المقدار فيما عرف بنظام (النطاق السعري المستهدف), ووفقا لهذا النظام فان السعر الامثل بالنسبة لدول الاوبك هو 25 دولارا للبرميل. أزمة النفط الحالية (الأسباب) واعمالا للآلية سالفة الذكر، قررت الاوبك زيادة انتاجها مرتين حتى منتصف العام الحالي، كان آخرها في 21 يونيه الماضي عندما عقدت المنظمة اجتماعا استثنائيا قررت فيه زيادة انتاجها بواقع 807 آلاف برميل يوميا مع بداية يوليو الماضي وذلك بسبب ارتفاع اسعار النفط حيث تجاوزت 31 دولارا للبرميل، ومع ذلك لم تشهد الاسعار انخفاضا ملحوظا، بل زادت بأرقام قياسية مع مطلع الشهر الحالي مما دعا وزراء مالية دول الاتحاد الاوروبي المجتمعين في فرساي بفرنسا اوائل سبتمبر الجاري الى مطالبة دول الاوبك بزيادة جديدة في مستوى انتاجها للحد من ارتفاع الاسعار خاصة ان هذا الارتفاع لم يمر مرور الكرام في القارة الاوروبية او خارجها بل شهدت الاسابيع الماضية موجة احتجاجات واضطرابات احتجاجا على ارتفاع اسعار الوقود بدأت في بريطانياوفرنسا والمانيا ثم انتقلت عدواها الى بولندا وبلجيكا او ايرلندا الشمالية، بل الى البلدان الآسيوية التي قررت الاحجام عن قرارات كانت تنوي اتخاذها بشأن رفع الدعم عن الوقود او فرض ضرائب جديدة عليه. واستجابة لهذه الاوضاع المتدهورة قرر الاجتماع الوزاري الاستثنائي لدول اوبك في فيينا في العاشر من سبتمبر الحالي زيادة انتاج المنظمة بواقع 800 الف برميل يوميا بغرض تخفيض سعر النفط ليستقر في النطاق المستهدف مابين 22 و28دولارا، على ان يبدأ العمل بهذه الزيادة مع بداية اكتوبر المقبل، وبذلك يرتفع السقف الانتاجي للاوبك الى 26,2مليون برميل يوميا (باستثناء انتاج العراق) ومن المقرر ان يعاود وزراء اوبك الاجتماع ثانية في الثاني عشر من نوفمبر القادم لبحث اثر تنفيذ هذا القرار على اوضاع الاسعار ومستويات السوق الدولية للنفط. والواقع ان الاعلان عن هذه الزيادة لم يساهم الا قليلا في تخفيض سعر النفط، الامر الذي يرجح وجهة نظر لدول المنتجة بشأن الازمة العالية على وجهة نظر الدول المستهلكة في هذا الامر, ففي الوقت الذي ترى فيه الدول المستهلكة ان سبب الازمة يكمن في قلة المعروض من النفط الخام ومن ثم ترى الحل في زيادة الانتاج وتلقي بالمسئولية كاملة على الدول المنتجة في هذا الشأن، ترى الدول المنتجة ثم اوبك ان المعروض من النفط الخام حاليا في السوق كاف وان السوق متوازن، وان الزيادة الحالية في الاسعار ترجع الى عوامل اخرى تخص الدول المستهلكة ذاتها وفي مقدمتها الضرائب الباهظة المفروضة على المنتجات النفطية، وعدم كفاءة مصافي التكرير في الدول المستهلكة ومن ثم عدم قدرتها على استيعاب انتاج البترول الخام مما أوجد ازمة علاوة على وجود وسطاء وتجار يتلاعبون فيها عن طريق المضاربة في الاسعار. وتؤكد خبرة دول اوبك ان اسعار النفط الخام يؤثر تأثيرا قليلا ويكاد يكون محدودا على الطلب على النفط في الاجل المتوسط والطويل وان هذا الطلب يتأثر بالسياسات الضريبية والمالية للدول المستهلكة، بعبارة اخرى فان اسعار المنتجات النفطية (كالبنزين مثلاً) هي التي تؤثر بقوة وليس سعر النفط الخام,, مع الطلب على النفط ومشتقاته، وهكذا فإن الطلب على النفط الخام يصبح في التحليل النهائي طلبا على مشتقاته كالبنزين مثلا كمنتج نهائي يحتوي سعره على عناصر متعددة لايشكل سعر البترول الخام سوى عنصرا من بينها، وفي هذا السياق يبرز دور الضرائب التي تفرضها الحكومات الغربية على البترول ومشتقاته والتي تصل الى 80% من سعر البنزين في بريطانيا، و 70% من سعره في فرنسا،وهي ضرائب تصاعدية ومتعددة في آن معا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما كان سعر اللتر من البنزين في بريطانيا يناير 1999 (60بنسا) بلغت الضريبة الحكومية عن هذا السعر 44(بنسا) ثم وصل سعر اللتر الى 77 بنسا في سبتمبر 2000 بينما بلغت الضريبة عن هذا السعر (48بنسا). ولذلك لم يكن بمستغرب ان الاحتجاجات والاضطرابات التي شهدتها الكثير من العواصم الاوروبية لم تطالب الدول المنتجة بزيادة المعروض من الانتاج وانما احتجت على الضرائب الحكومية المرتفعة التي ادت الى ارتفاع حاد في اسعار الوقود في هذه الدول، ولم تهدأ هذه الاضرابات بعد قرار اوبك زيادة الانتاج بمقدار 800 الف برميل يوميا وانما هدأت بعد تعهد الحكومة الفرنسية بالغاء الضرائب والرسوم على الوقود، وعندما تعهدت الحكومات في بلجيكا والمانيا بمراعاة ذلك عند فرض ضرائب جديدة في الميزانية القادمة، فيما ظلت الاحتجاجات مستمرة في بريطانيا بسبب تعنت رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ورفضه تقديم اية تنازلات ضرائيبية لسائقي الشاحنات وسيارات الاجرة رغم انه وصف توقف حركة المرور بأنها تمثل خطرا على حياة المواطنين!! في ضوء ما سبق يرى كثير من المراقبين ان الزيادة التي ستطرحها اوبك في السوق العالمية لن تؤثر في اتجاه خفض اسعار النفط قبل نهاية العام الحالي نظرا لقرب موسم الشتاء، من ثم توقع زيادة الطلب على الوقود، فضلا عن الزيادة المتوقعة في الاستهلاك العالمي للوقود عقب تحسن معدلات النمو الاقتصادي العالمي،ناهيك عن محدودية المخزون العالمي من النفط ومنتجاته , ثم من غير المتوقع ان تنخفض اسعار النفط بشكل ملحوظ حتى مطلع العام القادم، وان كان نزول الزيادة المتوقعة من الاوبك الى الاسواق مع بداية اكتوبر المقبل قد يساهم في جعل السعر يدور حول منطقة ال30 دولارا للبرميل مع نهاية العام الحالي. وعلى المدى المتوسط من غير المتوقع ان تؤثر هذه الزيادة كثيرا على سعر النفط حتى لو وصلت الى مليون برميل بسبب محدودية الطاقة الانتاجية للدول الاعضاء في الاوبك، حيث تظل السعودية والى حد ما الامارات هما القادرتان فقط على زيادة قدرتهما الانتاجية في المدى المتوسط بينما اعلنت الكويت انها لن تستطيع زيادة انتاجها ولو برميلا واحداً، بل انها قد لاتستطيع الوفاء بحصتها المقررة حسب الزيادة الاخيرة والتي تصل الى 65 الف برميل يوميا, بالاضافة الى معارضة بعض دول اوبك (الجزائر) اية زيادة اخرى فوق ال800 الف برميل خشية تدهور الاسعار في السوق العالمية في غير صالح الدول المنتجة, بعبارة اخرى فانه ليس باستطاعة الاوبك ان تزيد من انتاجها من النفط الى ما لانهاية، وان استطاعت ذلك فانها لم ترغب في الاستمرار في هذه الزيادة الى ما لا نهاية حفاظا على مصالحها وخشية تدهور اسعار النفط في السوق العالمية، وعلى المدى الطويل، فان الامر يصبح اكثر تعقيدا لانه يتطلب تعاونا وحوارا وتنسيقا بين الدول المنتجة والدول المستهلكة للنفط في العالم. وذلك عبر حوار مشترك يعتمد مبدأ الشفافية حول الانتاج وأوضاع الاسواق، وأخذ المصالح المتبادلة في الاعتبار، ويناقش مسألة الضرائب المفروضة من قبل الدول المستهلكة على مشتقات البترول، وكذلك يتضمن موضوع نقل التكنولوجيا والمساعدات الفنية للدول المتبعة في مجال التنقيب والتكرير صناعة البتروكيمياويات.