الحوادث في زمنها وأحوالها تأريخّ، والتأريخ في حينه حادث، وما حدث ويحدث ويفوت هو من مضيّ الزمن المؤرَّخ، وما سيأتي مستقبلاً حادث سيئول الى الماضي ويصبح تاريخا. فالإنسان بين حوادث وأزمنة وتاريخ، الماضي الذي تلاشى قديم، والحاضر جديد والمستقبل منتظر. والأيام تفرق ويفقد فيها التواصل. والجيل يستبدل بأحداث وأناس، هذا غاد وذاك رائح. والسنون تتوالى وتنسلخ ويبقى التاريخ والأحداث والرجال. والحقب الغابرة في القدم والموغلة في سالف الدهور تفنى تُنسى. وجيل اليوم يسقط امامه السلف المخضرم. والزمن يستعد في الاستبدال والتغيير، وما هذا وذاك إلا من صنع الله الجليل بسننه الجارية في الكون. وهاهو جرير التأريخ كل يوم يستنبه البشرية لتعتبر في عبورها. هاهو كل يوم يقدم اوراقه التاريخية، ويمهد لأحداث أخرى كي تنهض بالكتّاب ليسجلوها بأقلام موروثة. هاهو يرنو بعين الرضا بعد ان أبرأ ذمته وبلغ رسالته عبر الزمن المنصرم. وها هو الزمن منذ عهوده الأولى التي اتصل ذيلها بالعهد الحديث، هاهو يقدم لمن اصبح وأضحى وظل وأمسى وبات فيه يقدم له صحفاً مطوية بعد ان ضمنه أخباره واطلعه على خزائنه التي نالها بعقله. وها هو زمن الجاسر منذ التقائه به في اولى مراحل العمر وهو يلاحقه ويعده للرحيل والسفر شيئاً فشيئا، وفي حين يتغيب اثناء الملاحقة ويختفي، وفي حين آخر يحسسه بإرهاصات المنية والرثاء، وهو بذلك كله يحزن بعض القلوب ويزيح عنها الانس والفرح ويدرجها طي الليالي والأيام المبهمة. وهل مازال يزمع بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال وهذا حدث هيئته هو ذلك الإنسان، وذلك الإنسان هو مدون الاحداث ومقيدها بالتاريخ، وباني جيله من قرنه، وقرنه من عمره. هو ذلك الساعي في تعليم وتلقين الاحداث، في غرس العلوم والفنون والمعارف التاريخية والاجتماعية والإنسانية، سعي بالقيم والمثل والأخلاق، وجهاد في فترة من الزمن الى ان حمد القوم السري. عَلَمٌ أخذ على نفسه العهد ان يصل ذلك الموروث التاريخي الى أبناء اليوم والغد، الى خَلَفِه الذي تربَّص لعقله لئلا ينبذ التاريخ والموروث العلمي والإنساني وراء ظهره والذي سيكون القيم عليه. فماذا أخذ الجيل؟ وبماذا تمسك من بعد من ثوى الثرى؟ وبأيٍّ أخذ من التراث؟ وبماذا يستعد في زمن لزمنه الحديث؟ هل يشمر لإبراز ماورثه من سلفه سائرا على نهجه؟ ام انه وأد للتراث وخيانة للتاريخ؟ هل تأخذه الغيرة كما اخذت سلفه في محبة موروث الامة، من تاريخ وأدب، وحضارة وقيم وأخلاق إنسانية، ومن حفظٍ للعلوم لإيصالها الى هذا العصر، والى من سيولد في الزمن الآتي الممتد. هل يدغدغ في نفس الجيل ذلك الحب الذي مزج بحاجات الجوارح والأرواح؟ هل يحفظ الجيل ماتركه الآباء والاجداد والسلف ويقيه من تسلل الاندثار ليمهد بذلك استخلاف جيل مستقبل؟ هل يؤدي رسالة التأريخ بمرويِّ الأفواه، ومنقول الأسفار؟ هل يعي ماهية التأريخ التي تغوص في البحث والتدوين والتأليف، وتهتم في جمع الشتات، وتحقيق النصوص العربية، في إسناد المنقول الى أصله، في صدق الناقل وضبط المنقول، في نشر العلوم والمعارف الموروثة، في تراجم الرجال من اهل العلم في الأُنس بهم وبعلومهم وبما نهلوا من علوم السابقين، من الذين لم يدركهم الجيل المتأخر، فربما وافق التأريخ بينهم فتحادثوا وتكاتبوا وتقابلوا وتحابوا وأفادوا. إن رواية الأحداث والأخبار التاريخية بكل ماتحويه لأمانة معلقة في أعناق أبناء كل جيل، وهو مطالب بالتباحث فيها وحفظها ثم دفع هذه الامانة الى اهلها من ابناء جيل مستقبل. والآن هل يجود الزمان بمثل من رحل عنا قريباً من دار الفناء الى دار البقاء؟ وهل يخلفه في دائرة ابحاثه واهتماماته خلفٌ ناهض؟ إن مثل هذا الرحيل من الخسارة التي يسجلها التاريخ ويحتفظ بها لنفسه اما نحن فيلفظ بالربح لنا حين نذكر الراحل، ومثله لاينسى، كيف ينسى وقد صار حدثا وتاريخاً. رحم الله المؤرخ والأديب الشيخ حمد الجاسر، وأسكنه فسيح جناته وأخلفنا الله خيراً. إنا لله وإنا إليه راجعون