رحم الله الشيخ حمد فقد كان ملء السمع والبصر وكانت له مكانة علمية في خارج الحدود أكثر مما هي عند بني جلدته، وان كان عارفو فضله يحلونه المكان الأسمى من قلوبهم ويقدرون فكره وعلمه في تاريخ الجزيرة العربية، ومواطنها التي ذكرت في المعاجم وفي الشعر. فقد أفل ذلك النجم الساطع وغيب الثرى ذلك العلم الجم الكامن في ذاكرته، فهو رحمه الله مكتبة زاخرة بالعلوم، يقدم الزناد، فتتفجر الينابيع وقد اعانه الله بذاكرة قوية، سارت معه طوال حياته، وانطبق فيه قول الفقهاء: من نعمة الله على العالم عدم اختلاطه آخر عمره. عرفت الشيخ حمد الجاسر ببساطته وتواضعه عندما كنت طالبا في المعهد العلمي بالرياض كان يدرس مادة التاريخ، وكان لسعة اطلاعه وإلمامه التاريخي، شيقا في عرضه للمادة وجاذبا لطلابه بتفاعله معهم وغوصه في أعماق نفوسهم. ومع ان مادة التاريخ مما يأنس بها كثير من الناس لما فيها من مشوقات وأحداث الا ان درس الشيخ حمد كان أحب شيء تلك الفترة الى تلاميذه,, فهو يأسر طلابه بطريقة الإلقاء وببسط الاحداث التاريخية وعدم خوضه في الخلافات التي تكتنف مسيرة بعض الأحداث,, وبسعة اطلاعه وحفظه. انني من اولئك الطلبة الذين رأوا في منهجية الشيخ حمد الجاسر غفر الله له طريقا متميزا وفي إلقائه للسير الذاتية حيث يتخير المحاسن ويضرب الصفح عما قيل من المساوىء، وان مر شيء عرضا ترحم وتجاوز بدون توسع او غوص على الاحداث ومسبباتها ,, وهذا هو منهج علماء السلف. هذه الاخلاق وتلك السجايا في الشيخ اعطت الطلبة عنه محبة وتآلفا ورغم انه لم يحمل امامهم العصا او يتهددهم بسلطته لانه كان وكيلا للمعهد فهو قد دخل قلوبهم وأحبوا فيه خلقه وعلمه وتواضعه واخلاصه بايصال المعلومات الى أذهانهم,, فما كان يتخلف عن درسه طالب، وما كان رحمه الله يدخل الفصل الا وجمعهم قد تكامل بهدوء وترقب للدرس وما يتبعه من مناقشة واسئلة. كما كان ينمي في طلابه حب المطالعة ويشير بالكتب النافعة,, ولذا كانت مكتبته التي تعتبر من اوائل المكتبات في الرياض، وموقعها شرق جامع الامام تركي بن عبدالله حيث دخل السوق الذي مكتبة الشيخ حمد وكان دكانا صغيرا في غربيه ضمن توسعة قصر الحكم، ومسجد الامام تركي بن عبدالله الجديد,كانت هذه المكتبة بكراسيها المتواضعة بعد عصر كل يوم منتدى للشباب وملتقى للطلاب حيث يأنسون بأحاديث الشيخ حمد وذكرياته وحثه لهم على المطالعة والبحث,, وتعريفهم بما ينفعهم من الكتب وما يجب تركه,ولما طرح أمام الطلاب فكرة المساهمة في مطابع يريد إحداثها هي مطابع الرياض سابقوا بما يتوفر لديهم من دريهمات هي جزء من المكافأة الشهرية لهم ليكون هذا الجهد لبنات في صرح ثقافي سابق فيه الشيخ حمد الجاسر الزمن لكي يحرك بعثا ثقافيا في جيل ذلك الوقت. وعندما احتلت المطابع مكانها في شرق الرياض حي غميثة اعتبر هذا الحدث نجما ثقافيا سطع في الرياض ليشمل ضوؤه المنطقة الوسطى,, وكانت البشارة الطيبة للطلاب والمثقفين أن فاجأهم حمد الجاسر ذلك الرجل الذي يتسابق عقله مع أحداث الزمن والتقدم الذي تعيشه البلاد وما يريده المسؤولون لها من مكانة لتتزاحم مع مثيلاتها. كانت المفاجأة ظهور اول صحيفة في الرياض هي اليمامة وقد كان يريد لها اسم الرياض لكنه سُبِق لذلك حيث ابان للمقربين اليه ملابسات ذلك. ومع المفاجأة كان الحث للطلاب وشباب الرياض ذلك الوقت بالاشتراك في اليمامة والمساهمة بالكتابة ,, حيث حرص بأن يتتلمذ على يديه الرعيل الاول في الصحافة مثلما أصَّل حب التاريخ والبحث في الدفعات الاولى من طلاب العلم في الرياض. وما من طالب يأتي للشيخ حمد في مكتبته او في مطابعه اللتين لم يرغب بأن تأخذ إحداهما اسمه مثلما عمل غيره فيما بعد,, لانه يريد ان يُعرف بأثره وجهده لا بإعلان اسمه وهذا من نبله وصفاء سريرته رحمه الله,كان لدى الطلبة ذلك الوقت اضطرابا في التوجه العلمي : منهم من يريد الثانوية العامة والكليات العلمية، ومنهم من كان نصيبه المعاهد والكليات الشرعية واللغوية,, فكان الاضطراب يقود بينهم الى التنازع, حيث أصيب بعضهم بالإحباط والبحث عن وظيفة بدل مواصلة الدراسة,, وكنت من الفريق الثالث,, فجئته يوما في مكتبه المتواضع بالمطبعة، وكالعادة يترك أعماله ليتبسّط في الحديث والاستماع لمن حوله,, لأنه اصبح في نظر طلبة ذلك الوقت هو استاذهم وهو مرشدهم لما فيه الخير لهم وهو بمثابة الأب لكل واحد فلا يخلفون له رأيا, قلت له: انني وجدت وظيفة في احدى المصالح وكان المرتب مغريا بالنسبة لما نتقاضاه من مكافأة فهل تنصحني بذلك؟ وكان جوابه تجاوز الله عنه : ما قدرتك على الدروس وهل تجد صعوبة في بعض المواد؟ قلت: لا وبحمد الله اتفوق في الامتحان ومع ذلك ادرس ليليا المرحلة المتوسطة واتجاوز الامتحان بنجاح كل عام. فقال لي: يا بني وهذه طريقته في خطابه مع الشباب دائما اترك الافكار التي تدعوك لترك الدراسة وابتعد عن الوظيفة فانها قيد يحجزك عن مواصلة الدراسة,, واستمر في دراستك حتى تأخذ اكبر الشهادات,, فانكم مقبلون على وقت السلاح فيه الشهادات والعلم,اخذت بنصيحته حتى نلت الجامعية,, وزرته عندما كان في بيروت مقيما,, ولم ينس تلك المشورة فقال: لماذا توقفت عن المسيرة كما قلت لي؟ وحثني على اغتنام الفرصة قبل فوات الأوان. فأخذت برأيه وذهبت لجامعة الازهر بالقاهرة حيث نصحني ,, فأكملت المشوار بتلك النصائح الصادقة التي كان يمحضني بها,, ويتابع مسيرتي العلمية كما يتابع الأب اولاده,ولم تكن هذه النصائح والاخلاص في المشورة مع المتابعة خاصة بي ولكنها من الشيخ حمد الجاسر رحمه الله عامة لكل من جاء اليه مسترشدا، وخالصة من قلبه لكل من عرف عنه زعزعة وترددا، فهو لا يحمل الحقد وصادق في المحبة والاخلاص,, وصائب في الرأي والنظرة البعيدة التي بانت له وخفيت على من لم يخض المعترك مثلما خاض. ولست وحدي الذي يدين بالفضل للشيخ حمد الجاسر ولا الذين استفادوا من نصائحه الصائبة فكل من حضر مجالس ومنتديات الشيخ حمد الجاسر الثقافية يدرك هذا، وكل من جمعه بالشيخ مجلس حتى اثناء مرضه يرى من الوفاء وحب الخير للجميع,, لانه لا يبخل بما وهبه الله من علم وما أدرك من تجربة وفطنة. فحقه علينا الدعاء بأن يشمله الله برحمته وان يسكنه فسيح جناته,, وان نحفظ له هذه المكانة لنذكره بها ذكرا حسنا لأمره صلى الله عليه وسلم بذكر محاسن موتانا,, فلقد كان يتجاهل نفسه في سبيل مصلحة الآخرين، ويفضل مصلحة المسترشد على رغبات نفسه ويبين له ما وراء الأكمة مما يجب الحيطة له,, أسبغ الله شآبيب الرحمة والرضوان على قبر شيخنا واستاذنا حمد الجاسر، وجعل الله في عقبه الخير والبركة وألهمهم الصبر والسلوان. وأختم حديثي باقتراح أقدمه لمعالي وزير التعليم العالي: بتبني احدى الجامعات لمركز يحمل اسم الشيخ حمد الجاسر لأبحاث الجزيرة العربية,, لتمسح مسحا كاملا هذه البلاد وتستكمل مسميات الأماكن والجبال والأودية في معاجم شاملة تكميلا لما يراه الشيخ حمد الجاسر ورفاق دربه. ولما في ذلك من فائدة للبلاد، ومكانة علمية تربط الجديد بالماضي,, حتى لا نضيع ذلك التراث، وأبناء هذه المملكة هم أحق بإتمام مسيرة علّامة الجزيرة حمد الجاسر.