مما يبعث على العجب أنه في ظل هذا الظرف المرحلي الذي نعايش تفاصيله اللحظية والذي تجاوزت فيه قوة رياح التغيير درجة رياح الأعاصير أنه توجد ثمة تركيبات ذهنية مبرمجة سيكولوجياً على أولوية رفض الأشياء المستجدة... ...وإشاحة الوجه عنها وعدم التعاطي معها بأي حالٍ من الأحوال، لا لشيء إلا لأنها تحمل طابع الجدة! وليس لها من التقادم ما يُشفع لها بالقبول. هذه الذهنية لا تتقن ممارسة عملية الانفصال والاتصال، الانفصال عن قوالب وأطر عفا عليها الزمن، والاتصال بالثوابت وبكل ما لا يتناقض مع مقتضياتها. تلك الذهنية المسكونة بمبدأ الممانعة تنعدم -أو تكاد- لديها المرونة اللازمة على نحو يجعلها لا تتكيف مع التطورات المستجدة بفعل ذلك العامل السيكولوجي القهري. هذا النمط المأخوذ بالسكونية يعاني فوبيا الجديد، فبنيته الانغلاقية تَفْرق من اللا معتاد، حيث يصيبها الهلع من كل ما لم تألفه فهي ترفض الجديد لمجرد جدّته، إنها تنفر منه تشمئز من معاينته لا لمسوغ منطقي بقدر ما هو داء تفكيري يعيق المتلبس به عن التعايش الإيجابي مع أفراد المستجد الحضاري مع أن الموضوعية تقتضي الجنوح نحو الانفتاح المعتدل الذي يتمعن في ضروب الوافد ويحاكمها إلى البنية العميقة في ثقافته وبناء على هذا يحدد مبدأ القبول أو النفي، القبول المشروط أو النفي المقنن. الجديد دائماً يثير حساسية في بعض الأوساط فينأون عنه ويبارزون بالشنآن من تزَعّم التنظير الدعائي له، وعلى سبيل المثال لما بدأ البث الفضائي وانتشرت القنوات الدينية تهيّب الكثيرون منه وتعالت أصوات متشنجة تطالب بلون من الانكفاء الإعلامي! في الحين الذي كانت فيه المصلحة العامة تقتضي مضاعفة مستوى الإقبال على تلكم القنوات ذات البعد التثقيفي الهادف والمسارعة في استقطابها لكن العقلية المنكفئة في ذلك الوقت وفي مستهل ذلك الضخ القنواتي كانت تتوجس خيفة منها وممن ينظّر لشرعنتها وتبدي تمنعاً لا يملك مبرراته المنطقية، لكن وبعد مضي فترة من الزمن -فارق التوقيت له اعتباره هنا!- وإذا بهؤلاء يدلفون في تنافس مثير وأخذوا يتسابقون في طلب تلك القنوات والتهافت عليها! وهكذا فتلك العقلية تعاني عسراً في الهضم فهي لا تقتنع بالجديد بل ترتعد منه بداية، ففي أول الأمر تَرهبه، تستدبره وتصد عنه وتستدبره خلف ظهرها فإذا شاع ذلك الطارئ وأخذ موقعه التمددي في قلب المجتمع، بدأت تنظر إليه بنوع من الشك والتردد، ثم إذا تمكن وأصبح واقعاً يفرض ذاته وليس بالإمكان عزله ولا اعتزاله أقبلت عليه بنهم، وهكذا بعد أمة تتشبث به ويبيت جزءاً من حياتها العامة لا تستغني عنه بأي حالٍ من الأحوال. العقلية المنكفئة لا تقبل الشيء إلا بعد تقادمه ولذا تستريب بالوافد وتستجمع كل قواها لمناهضته وتستنفر كل طاقاتها لوضع العراقيل في سبيله فإذا أفْلت هذا الوافد من قبضتها وتمكن من الاختراق والنفاذ فهنا تبدأ تلك العقلية ببدء العد التنازلي فتتراجع رويدا رويدا حتى تتجرد تماماً من مفاهيمها الأولى وتدشن للون آخر من التعاطي لم تعمل على اصطفائه ابتداءً وإنما ارتضته كلون من الفعل الاضطراري ساقها إليه شعور بأن عجلة التطور قد استكملت دورتها وأن الواقع المحيط قد تغيرت ملامحه برمتها وهنا تدرك تلك العقلية أنها وحدها في الساحة تنازل الفراغ مما يحفزها بالتالي إلى محاولة اللحاق بالركب الذي سار وقطع الأميال!. إنه كما أن الدخول في حالة من الذوبان الثقافي الهادف إلى مسخ الهوية وانفصال الوعي العام عن نظامه القيمي كما أن هذا لا يسوغ فإنه في المقابل أيضاً لا يقبل إطلاقا تغليب لغة التقاليد الحادية نحو التقوقع الانكفائي على كل معتقد يجري توارثه دون جدوى، بل ويتم بناء الجدر العازلة التي تعرقل كل من رام التغريد خارج فضاءاته. وصفوة القول: إنه في ظل الانفجار الأسطوري في عالم التقنية يظل الانفتاح على الجديد مطلباً بل هو الأصل ولكنه انفتاح مقنن قائم على مبدأ التقبل في القبول بعيداً عن ذلك الانفتاح الاسفنجي القائم على مبدأ القبول الفوري الذي يمتص كل ألوان الوافدات من دون غربلة لمحتوياتها، وبعيداً أيضاً عن تلك العقلية المحنطة التي تعاني رهاب الخطوة الأولى على نحو جعلها تعيش منكمشة ومتكورة على ذاتها لتتسكع خارج حدود التاريخ!. [email protected]