الشك الممنهج كفلسفة تفكيرية يتكئ على تكثيف النشاط الذهني الذي يحرك المياه الراكدة ويزعزع وفق ضرب من الغربلة المنهجية كثيرًا من اليقينيات الوهمية المتكئة على الانحباس في قوقعة الوثوقية القطعية والمرتكزة على مركزية التمركزعلى مبدأ الإلغاء التعسفي لإمكانية الاحتمال التعددي. التحول من الشك إلى اليقين مرتبط بالبرهنة المنطقية التى تسوغ ذلك التحول من جهة وتعزز الثقة بسلامة المعطيات التى تم التوصل إليها من جهة أخرى. الشك المنهجي المعقلن يفتح لصاحبه آفاقًا نحواستيعاب معاني جديدة تتيح له التعاطي العقلاني مع المتغيرات التى تتحرك فى عالم اليوم، وتنأى به عن توهم الاكتفاء وتَوَهّم التربع على قمة الهرم الثقافي. الألمعية الذهنية وديناميكية البديهة تحدو بذويها نحو التحررمن التمركزات المصمتة والتخلص من ذهنية الانغلاق الإلغائية التى لا تنبعث إلا وفقًا لأحكام ومواقف شعورية مسبقة فهي سجنت ذاتها في دائرة ضيقة لا تعاين ما خلفها من مغايراتٍ قد تكون للموضوعية أقرب. التجافي عن الشك المدلل هو ضرب من التقاعد الذهني الذي يحرض على مصادرة الآراء المباينة وتهميش ذويها والنظر بعين الريبة للأطياف المخالفة وخلق أجواء غير صحية يتم من خلالها وأد عملية التثاقف الدائر بين مختلف التكوينات، والعمل على الترويج لفكرة أن ذلك الاحتفاء بالتلاقح العقلي ليس إلا ضربًا من الاستهلاك الفاقد لمبررات تشكله. الفلسفة الشكية الممنهجة يترتب على التلبس بها تَوَلّد نوعًا من الرغبة العارمة في مبارحة خنادق التمركز، وتَشَوّفٌ نحو التواصل مع ضروب المختلف عبر الآليات الحوارية للتوصل إلى الأفضل والتحرر من الانحصار في الرؤية الأحادية التي قد تُسفر أضواء القراءة الكاشفة عن بطلان مستنداتها. تلك الفلسفة تلقي في روع المتوفر عليها أن ما انتهى إليه من أبنية مفاهيمية ليست كلها تحظى بقدر وافر من التماسك، بل هناك ما هوعلى درجة من الهشاشة التي تحدو لا للانحباس في إطارها وإنما لتعريضها للنقد والتمحيص والمساءلة والإضافة المتتابعة. إن هذا الضرب من الشك يقي المتلبس به متتاليات التمركزالثقافي الذي لا يفضي إلا إلى ضرب من الذوبان، وهو أيضًا يعزز قنوات الاتصال ويبلور خطوط التواصل ويشكل روح التطلع نحوالابداع التجديدي المرتكز على الارتباط العقلاني بالأفكار بعيدًا عن الارتباط الوجداني الذي ينغلق على تلك الرؤية ويرفض الانفتاح على ما سواها انطلاقًا من أبعاد عاطفية غير قائمة على التأمل والنظرالمدلل. صاحب التفكير المفعم بالوجدانية يعشق الفكرة، يذوب في أنحائها وتبيت جزءً من كينونته على نحو يتعذرعليه التحرر من إيحاءاتها. إنها مقدسة في وعيه وخصوصًا إذا كانت تؤمّن له حالة من التوافق الاجتماعي، أو كانت نابعة من ذاتٍ لها حضورها التبجيلي في الوسط المحيط. هذا النوع القابع في قفص التحجر بينه وبين المرونة عداء متأصل، بل قد يعتبرها نوعًا من العار الذي يجب تلافي السقوط في دركاته!. إن من نافلة القول: التأكيد على أن الشك المعتبر والذي تنهض عليه هذه القراءة هو لا شك، خارج إطار قيمنا الثبوتية ومبادئنا العقدية التي لا تقبل أنصاف الحلول والتي تمثل أبرزعناصر الهوية التي لا يمكننا التنازل عنها بأي حال من الأحوال.