إن كل حرب تُخاض ثلاث مرات. فأولاً تبدأ المناقشة السياسية حول ضرورة شن هذه الحرب أو المشاركة فيها. ثم تأتي مسألة كيفية خوض الحرب. وأخيراً ينتهي الأمر إلى مرحلة النظر في الدروس التي ينبغي استخلاصها من الحرب. والحرب الباردة، التي تُعَد الصراع الرئيسي الثالث في القرن العشرين، لا تشكل استثناءً من هذه القاعدة. وبوسعنا أن نتعرف على المراحل الثلاث للحرب الباردة، والمناقشات الحادة الثلاث التي أحاطت بها. فكان هناك على سبيل المثال أولئك الذين تساءلوا ما إذا كانت الحرب الباردة ضرورية وما إذا كان الاتحاد السوفييتي والشيوعية يشكلان تهديداً. ولقد شكّل هؤلاء (الرجعيون) أقلية متميزة، وهو أمر طيب، حيث لا يوجد سبب للاعتقاد بأن السوفييت والشيوعيين كانوا يمثلون قوة حميدة. ونتيجة لهذا فقد تحولت الحرب الباردة، أو الصراع العالمي الذي دام لأربعة عقود من الزمان، إلى واقع عاشه العالم. وهناك أيضاً المناقشة التي دارت حول أفضل السبل لخوض الحرب الباردة طيلة تاريخها. وفي هذا السياق برزت مدرستان فكريتان رئيسيتان: مدرسة (تغيير النظام) ومدرسة (الاحتواء). ولقد زعم أنصار المدرسة الأولى أن أي شيء أقل من الإطاحة بالشيوعية تغيير النظام بلغة اليوم لن يكون كافياً لتلبية الغرض منه. أما المدرسة الثانية فقد زعم أنصارها أن الجهود الرامية إلى دحر الشيوعية في الأمد القصير تتسم بالخطورة الشديدة، وذلك نظراً للترسانة النووية السوفييتية، وعلى هذا فلابد وأن يَقنَع الغرب والولاياتالمتحدة بالحد من انتشار القوة السوفييتية ونفوذها. وكانت الغَلَبة للاحتواء، ولكن النقاش لم يُحسَم، وذلك نظراً للمجادلات العنيفة بشأن مكان تنفيذ عمليات الاحتواء (فيتنام، أو أمريكا الوسطى، أو الشرق الأوسط) وكيف ينبغي أن يكون التنفيذ. على سبيل المثال، من خلال تشكيل المزيج السليم من القوة العسكرية، والعمل السري، والدبلوماسية، والحد من التسلح، والعقوبات الاقتصادية، والمساعدات. والآن، وبعد مرور عشرين عاماً منذ سقوط سور برلين، فما زلنا نمر بالمرحلة الثالثة - المناقشة حول أسباب انتهاء الحرب وكيف انتهت. هناك مدرسة فكرية واحدة تؤكد أن الفوز بالحرب الباردة كان نتيجة لعقود من الضغوط المستمرة التي مارستها الولاياتالمتحدة، والغرب عموماً، على الاتحاد السوفييتي وحلفائه. وفي أوقات متعددة كانت هذه الضغوط في هيئة برامج نووية أمريكية، وبريطانية، وفرنسية؛ هذا إلى جانب استعداد حلف شمال الأطلنطي للتصدي لنشر حلف وارسو لكل من القوات العسكرية التقليدية والنووية التكتيكية؛ وقرار الدفاع عن كوريا الجنوبية ضد عدوان الشمال؛ وتسليح المجاهدين في أفغانستان بهدف استنزاف قوة الاحتلال السوفييتية؛ والقرار الذي اتخذ ببناء درع صاروخية دفاعية بهدف التصدي للاستثمار العسكري السوفييتي الرئيسي وإفلاس الحكومة السوفييتية. أما المدرسة الفكرية الثانية، التي تختلف تمام الاختلاف عن الأولى، فإنها تميل إلى التركيز على هوية الاتحاد السوفييتي والتقليل من التركيز على أفعال الغرب. وطبقاً لهذا السرد فإن الغرب لم ينتصر في الحرب الباردة، بل إن الاتحاد السوفييتي هو الذي خسرها، فكانت الخسارة نتيجة حتمية لضعف الاتحاد السوفييتي اقتصادياً وانحلاله السياسي. ولكن هناك منظور آخر يؤكد أن استعداد الغرب لإشراك الاتحاد السوفييتي، بقدر رغبته في التصدي له، أدى دوراً رئيسياً في توجيه الأحداث نحو ما انتهت إليه. ولقد ساعدت التهدئة في منع المنافسة من التحول إلى صراع بعد أن عرَّضت العالم الشيوعي للأفكار الغربية بشأن الحرية والرأسمالية إلى جانب الفوائد المترتبة على تلك الأفكار. فقد وجد النظام السوفييتي، وغيره من الأنظمة الثقيلة، أنه يخسر معركة الأفكار بصورة متزايدة، ويخسر بالتالي تأييد مواطنيه ودعمهم له. ولقد أدت كل هذه العوامل دوراً واضحاً. وكان استعداد الغرب لإنكار نجاح السوفييت بمثابة عنصر أساسي في هذه الإستراتيجية. ولكن هذا وحده ما كان ليكفي؛ بل إن الحرب الباردة كانت لتتحول إلى حرب ساخنة لو كانت الاستراتيجية الغربية تتألف فقط من المنافسة والمواجهة العسكرية. وكان الحد من المنافسة وتخفيفها أمراً بالغ الأهمية من أجل السماح لضغوط التغيير بالتراكم من داخل الكتلة السوفييتية. وكان من المهم أيضاً فضح الأحوال في المجتمعات الخاضعة للسيطرة السوفييتية وتوضيح نقائصها وأوجه القصور التي تتسم بها في مقابل مزايا الأفكار الخارجية. ولقد أثر كل ما سبق في تحديات اليوم. لا شك أن أي تهديد عالمي اليوم لا يرقى إلى حجم تهديد الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن هناك تحديات خطيرة تنشأ من بلدان مثل إيران وكوريا الشمالية. والأمر يتطلب الآن سياسة واضحة من جانب المجتمع الدولي تجمع بين القوة العسكرية والاستعداد للتفاوض والتفاعل، وهي سياسة تعتمد على القوة الجمعية والمرونة الجمعية. ومن الأهمية بمكان أن نضع في اعتبارنا أن الاحتواء، أو المذهب السائد أثناء حقبة الحرب الباردة، الذي كان الهدف منه صد التوسع السوفييتي والشيوعي ليس الحد من انتشار القوة السوفييتية، بل وإحباطها أيضاً من أجل توفير البيئة التي تسمح بظهور العيوب والنقائص المتأصلة في الشيوعية والحكم الاستبدادي على السطح. وما كان بوسع ميخائيل جورباتشوف أن يفعل ما فعله إلا في خضم أزمة ثقة. واليوم يحتاج العالم إلى خلق أزمة ثقة مماثلة في أذهان أولئك الذين يحكمون إيران وكوريا الشمالية. ولابد أن يتلخص الهدف في الحد مما يمكنهم إنجازه في الأمد القريب؛ وحملهم على تغيير سياساتهم في الأمد المتوسط؛ وتحريك القوى التي سوف تؤدي إلى جلب حكومات جديدة ومختلفة جوهرياً وتأسيس مجتمعات أكثر نضوجاً في الأمد البعيد. لقد خدم مثل هذا النهج العالم أثناء الحرب الباردة؛ ومن الممكن أن يؤدي الخدمة نفسها الآن. ريتشارد ن. هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية.