لا ندري سر تعلقنا بأشيائنا القديمة، ليس المحسوس منها فحسب إنما حتى المعنوي، إذ ظللنا نتشبث فيه، ونرومه ونحقق في جل تفاصيله وندعو ليل نهار أن تعود تلك الأشياء القديمة حتى وإن كانت مليئة بالأخطاء، لأن تلك الأخطاء قد تكون مقبولة إذا ما قورنت بما قد يحدث من أخطاء هذه الأيام في مجال التربية والتعليم والصحة ومراقبة المشروعات التي لا نختلف كثيراً على أنها معرضة لأن يتم الخطأ فيها. ومن تلك الأشياء القديمة هي سيرة (المفتش) التي عرفناها ونحن صغار على مقاعد الدراسة، فحينما تنتدب إدارة التعليم شخصية تربوية تتابع سير العملية التعليمية للمعلم والطالب وملاحظة ما يطرأ على المدرسة وكيانها. فالمفتش آنذاك كنا نظنه أسطورياً، حتى إن حجم المعلم يتضاءل ولا سيما حينما يغشاه هلع وتعروه ابتسامة صفراء، لنكتشف أن الأستاذ أمامنا يخاف مثلنا ولا سيما حينما يلوح أحد الطلبة بأنه قد يصعد أمر عقابه في وقت مضى، أو ربما ضربه بالعصا إلى هذا المفتش. فالأديب طه حسين كان مفتشاً، وقبله العقاد، وأدباء آخرين من أمثال نجيب محفوظ، ويوسف القعيد، حيث ظلت مزية التفتيش تغادر إلى غير رجعة، فلم يعد للاسم (مفتش) أي أثر أو وجود هذه الأيام ليس في التعليم فحسب إنما في شؤون كثيرة في حياتنا. حتى الاسم البديل للمفتش غُير وحوّر إلى (موجه) ولم يلبث اسم موجه إلا وتغير نظراً لأن ذلك الموجه قد يحتاج إلى من يوجهه في الأصل، لتتحول لغة المتابعة والمراقبة وهي في الأساس تعني المفتش إلا أنها لم تستبدل بما يجعل الفرد مفتشاً ومراقباً على ذاته وهذا سر نجاح الدول من حولنا، ولا نقول هنا أوروبا أو أمريكا إنما التجربة الخليجية على نحو دبي وأبوظبي والدوحة. (جاكم الذيب.. جاكم وليده) حكمة من يؤمنون ويتشبثون بالمفتش والمراقب والمتابع حتى إنها باتت من علامات التسلط، لأن هناك من يتمنى أن يتابع أو يراقب أو يفتش فكانت البرقيات بين المناطق قديماً تشير وبشفرة مبهمة إلى أن أمراً ما سيحل بأحد ليلغز بالرسالة المقتضبة: (جاكم الذئب) ليفهموا أن مفتشاً يقطع الفيافي إليهم لتقييم أدائهم أو للتحقيق بقضية ما، ربما حملتها مراسلات البريد، ليتخذ كل منهم حذره، ومن له حيلة فليحتل. في التفتيش التربوي في المدارس كان الهلع هو الواضح أما في العمل الحكومي فإنه أقل رعباً قياساً إلى العمر والتجارب وواقع الممارسة، إلا أنه ومع اختفاء هذا الاسم كما أسلفنا فإن فرضية التفتيش والتمحيص والتحقيق هي القائمة فلا بد من أن تبقى صورة المفتش حتى وإن غمستها بماء الهدوء لأيام، فلن تجدي طالما أنها تستخدم بنفس الأسلوب وإن تغير الاسم. [email protected]