مازالت في ذاكرتي تلك الدهشة التي اعترت وجوه من كانوا في ذلك المكتب حينما سامحت سائقاً بنغالياً رفض كفيله دفع رسوم إصلاح سيارتي بعدما ثبت الخطأ عليه من أجل البروفسور محمد يونس الذي كانت وسائل الإعلام تتناقل فوزه بجائزة نوبل للسلام تلك الأيام، فسأل الجميع عن تلك الشخصية التي سارت على نهج العظماء الرحماء، صدقاً أعجبتني إنسانيته ورؤيته واستشرافه وسبره أغوار الأمور حينما وجه إليه سؤال من أحد الصحفيين عن سبب حصوله على جائزة نوبل في السلام وليس في الاقتصاد قال: (القضاء على الفقر هو الذي يحقق السلام الحقيقي، فلا يوجد احترام للذات ولا المكانة عندما يكون المرء مكبلاً بالفقر)، وأضاف (الآن الحرب ضد الفقر ستصبح أشد في أنحاء العالم، سوف نعزز الكفاح ضد الفقر من خلال تقديم قروض صغيرة في معظم بقاع العالم). أيها السادة: ما من نبي ولا خليفة ولا ملك صالح إلا وقد تمنى أن يكون الفقر رجلاً فيقتله، لأنه مسؤول عن الفساد وعدم ضبط مسار المجتمع، ويقف معوقاً صامداً أمام معول الإصلاح الصلد، ومن عظمة الإسلام شجع أتباعه على تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي، عن طريق الزكوات والصدقات والإنفاق من خير ما نحب وكفالة الأيتام ومساعدة العجزة والعاطلين، لكن ما نراه من تقارير دولية فيما يخص زيادة معدلات التضخم في كثير من دول العالم ينذر بكارثة حقيقية ستجتاح العالم ومن أهمها أن ألف إنسان يموتون جوعاً كل ساعة في عالم أشبه بصلعة برناردشو حينما عبر في لحظة جوع عن غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، وهو يسخر من صلعته وكثافة شعر لحيته. مما أدى إلى ان تنقلب معادلات الإنسان الذي يأكل ليعيش بمحصلاتها رأساً على عقب لينتهي بكائن يعيش ليأكل دونما أمل ورغبة في حياة الديستوبيا أو المدينة الراذلة لتفضح كل شعارات الزيف والتدجين التي أطلقها العسكر وجنرالاتهم وجيوشهم وخوذاتهم وبساطيلهم التي شوهت التضاريس حينما بشروا العالم وفقراءه باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة وتناسوا ان شمال هذا الكوكب أخضر متطور وجنوبه أسود متخلف، بل إن الناس الجنوبيين يعدون طريقة حياة قط الشاعر الغربي مالارميه ضرباً من الخيال. يا ترى في زماننا الأدرد.. هل يسعى الشنفرى الأزدي ذلك الصعلوك الجاهلي كي يستف ترب الأرض حباً في كرامة يتخيلها لحظة انتشاء لوكان مسؤولا عن أبناء يتضورون جوعا أمامه ذات مساء، ويلتهمون أسمالهم وهم عراة حينها ماذا سيبقى وماذا سيبيع، وإلى أي مدى يتنازل وبأي شيء يحتفظ، وما قيمة الشرف في الأبوة الفاشلة؟ فالأرض التي يستحيل أن تضيق في عينه حينما قال (وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى..) ضاقت بساكنيها حتى تعذر موطئ قدم وانقلبت معادلاتها ومحصلاتها النهائية، وأصبحت اللقمة التي تسد بها رمق أطفالك لابد أن تنتزعها من فم طفل آخر، ونداء الأمعاء في جوف إنسان كالاسفنج ضجيج يعم الأرجاء باختلاف الألسنة والألوان ومازالت القوى السياسية تفكر في فرض السيطرة على الجوعى وتنفق الميزانيات الضخمة على صراعات وهمية لأن الجميع مهزومون مادام هناك ألف إنسان يموتون كل ساعة في كوكب يعيش الشقاء الكوني العابر للقارات وللثقافات واللغات. أين الأثرياء في العالم من البروفيسور محمد يونس أستاذ الاقتصاد السابق في جامعة (شيتاجونج) إحدى الجامعات الكبرى في بنغلاديش التي فازت به جائزة نوبل عام 2006م بدأ نضاله ضد الجوع في عام 1965م وبعد أن وصل يونس إلى مكانة علمية متميزة حصل على منحة من مؤسسة فولبرايت لدراسة الدكتوراه في جامعة فاندربيلت بولاية تينيسي بالولايات المتحدةالأمريكية ليصبح بعد ذلك رئيسا لقسم الاقتصاد في جامعة شيتاجونج ببنجلاديش، وقد أخذ يونس من البداية موقف المساند لبلاده بنجلاديش في الغربة، وكان ضمن الحركة الطلابية البنغالية المؤيدة للاستقلال التي كان لها دور بارز في تحقيق ذلك في النهاية، وكان أهالي بنجلاديش يعانون ظروفاً معيشية صعبة، وجاء عام 1974 لتتفاقم معاناة الناس بحدوث مجاعة قُتل فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون. وذلك لما تفاقم أوضاع الفقراء في بلاده، مضى يحاول إقناع البنك المر كزي أو البنوك التجارية بوضع نظام لإقراض الفقراء بدون ضمانات، وهو ما دعا رجال البنوك للسخرية منه ومن أفكاره، زاعمين ان الفقراء ليسوا أهلا للاقراض. لكنه صمم على ان الفقراء جديرون بالاقتراض، كان يؤمن بمقولة: (إذا أردت مساعدتي فلا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطادها)، واستطاع بعد ذلك إنشاء بنك جرامين في عام 1979 في بنغلاديش لإقراض الفقراء بنظام القروض متناهية الصغر التي تساعدهم على القيام بأعمال بسيطة تدرعليهم دخلا يساعدهم على العيش الكريم، وبكل أسف قضم القحط الزمان والإنسان حتى أصبحت الوهاد تردد بصوت شجي مع بدر السياب قصيدته، وهي ما مرّ عام إلا وكان فيه جوع، سواء في العراق أرض السواد لفرط الخضرة ووفرة الماء، أو في أية أرض أخرى نبت الخريف على دمنتها، شعوب غارقة في مديونيات البطالة التاريخية، ودول تعاني من التضخم السياسي ربما تعذر عليها السداد ولو كان على طريقة شايلوك الذي أراد اقتطاع رطل من اللحم الآدمي دون إراقة قطرة دم من الضحية في تاجر البندقية لشكسبير.. وباء مخيف يتمدد بلا جنسية ولا هوية، والمؤلم ان الضحية قد يكون جارا أو قريبا نحسبه غنيا من التعفف، يتعرض لحرب لا ينزف قتلاها، ولا يستغيث ضحاياها، تمص حياء الإنسان حتى نخاعه بطريقة تردد مع أبي الطيب (فلا كانوا ولا الجود)، ونحن لا نشعر بأنيابها وهي تقضم لحم أبدانهم وتسرق قبورهم مثلما كانت تنبش القبور الفرعونية بحثاً عن أسنان ذهبية أو كنوز دفنت مع الميت، والأدهى أنها لم تكتف بالذهب بل تجاوزته إلى سرقة الجماجم والهياكل العظمية والأعضاء وكأنها (بروكوست) الاغريقي الذي يعذب ضحاياه ويبتر أعضاءهم أو يمطها كي تتلاءم مع مساحة السرير، ولم يدرك الجوع أنه يبتر القيم ويمط الأخلاق.. لماذا فشلت المفاوضات الماراثونية بين أربعين وزيرا للتجارة من أجل تحرير التجارة العالمية التي نظمتها منظمة التجارة العالمية في مدينة جنيف؟ ولماذا هذا البون الشاسع بين عالمي الشمال والجنوب، أو بين مجموعة الدول الغنية ومجموعة الدول الفقيرة، بالإضافة إلى ظهور تناقضات المصالح بين دول صناعية في الشمال، ودول مستهلكة في الجنوب. هذا مشهد لتناقضات المصالح في التجارة الدولية، في الوقت الذي يعيش 2.6 مليار شخص على أقل من دولارين يومياً، من أصل 6.4 مليار شخص يشكلون مجموعة سكان العالم. وهناك مليار إنسان يفتقدون المياه الصالحة للشرب، و1.6 مليار شخص يعيشون بلا كهرباء. هذا ما أعلنه برنامج الأممالمتحدة الانمائي، أما وكالة الإغاثة الدولية فإنها تدق ناقوس الخطر بسبب تفشي الجوع، وتشير إلى 15 مليون إنسان في القرن الإفريقي يواجهون كارثة إنسانية ما لم يتم تزويدهم بالمؤن الضرورية.. والله من وراء القصد.