إن المملكة العربية السعودية مقبلة على طفرة اقتصادية عظيمة، يتسابق لها الشرق قبل الغرب، فها هي المدن الصناعية والاقتصادية الكبيرة بدأت تستجلب كبار الشركات العالمية، وما مدينة الملك عبدالله الاقتصادية برابغ ومدينة جازان الاقتصادية وغيرهما من المدن الصناعية والاقتصادية الكبيرة إلا مثال حي لتلك الفرص الثمينة، بالإضافة للمدن والمجمعات الصناعية والاقتصادية القديمة والجديدة، لتلقي بظلالها بعشرات الآلاف من الوظائف الإدارية والفنية والمهنية كل عام. ومع هذا كله فأين نصيب الشاب السعودي من هذه الوظائف؟ وهل ستحل هذه المدن مشكلة البطالة لدينا؟ لا أريد أن أكون متشائما، ولكن ما هذه المدن الصناعية والاقتصادية الكبيرة إلا صورة مكبرة للمدن الصناعية والورش والمراكز الصناعية القائمة، فكم نسبة السعودة فيها؟ وكم يعمل فيها من غير السعوديين؟ ولماذا لا نرى الشاب السعودي - إلا ما قل - داخل هذه المراكز والمجمعات الصناعية؟ وأين يذهب خريجو الكليات التقنية ومعاهد التدريب المهني كل عام!؟ كل هذه التساؤلات أضعها أمام وزير العمل الذي لا يساورني أدنى شك في حرصه وسعيه الدؤوب لتوظيف الشباب السعودي وإيجاد فرص جديدة لهم وسعودة الكثير من الوظائف. وبرأيي المتواضع أن أسباب بُعد الشباب السعودي عن هذه المدن أو المراكز الصناعية - هو وجود فجوة كبيرة نشأت واتسعت بمرور الوقت بين سوق العمل ومخرجات التعليم والتدريب لدينا، وخصوصاً مخرجات المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، ويعود ذلك إلى السياسة التي تنتهجها الجامعات والكليات ومعاهد ومراكز التدريب في المملكة - وهي تخريج أعداد من الطلاب والمتدربين كل عام دون النظر إلى الحاجة الفعلية لسوق العمل لهذه الوظائف وإن تم حصرها فهي لا تعدوا أن تكون أرقاماً تذكر دون بحث المعوقات الحقيقية التي تبعد الشاب السعودي عن العمل بتلك المهن. و المؤسسة العامة في اعتقادي هي المعنية الرئيسة في إيجاد فرص وظيفية حقيقية دخل هذه المدن عبر مخرجاتها من كليات تقنية ومراكز ومعاهد التدريب المنتشرة في جميع أنحاء المملكة. ولكن للأسف الشديد فرغم كثرة هذه المعاهد لدينا واختلاف تخصصاتها والقطاعات المشرفة عليها... إلا أنها بعيدة كل البعد عن معاقل التنمية الصناعية الحقيقية في بلادنا، والمتمثلة في المدن الصناعية، والمراكز الصناعية، إذا استثنينا بعض المعاهد المحدودة التي قد ينشئها القطاع الخاص داخل مصانعه والتي لا تفي بالغرض المقصود. والواقع أن كثيراً من الشباب يتخرج من معاهد التدريب المهني وغيرها من معاهد ومراكز التدريب، ولا يجد الفرص المناسبة للعمل بالقطاع الخاص، ويعود ذلك بالدرجة الأولى كما أسلفت إلى الفجوة الكبيرة بين سوق العمل وتلك المعاهد، وأسباب ذلك: أولاً: بُعد هذه المعاهد المكاني والزماني عن واقع ومتطلبات سوق العمل. ثانياً: عدم قدرتها على مواكبة ما يستجد فيه من أعمال. ثالثاً: ضعف مؤهلات خريج تلك المعاهد نتيجة عدم إعطائه الفرصة الكافية في تدريبه التدريب الجيد في مجال تخصصه. رابعاً: أسباب أخرى تتعلق بالقطاع الخاص والتعامل معه والمشاكل المترتبة على ذلك من البحث عن فرص عمل، وشروط أصحاب العمل والتي لم يعتد عليها الشاب داخل هذه المعاهد، وغيرها من الأسباب التي لا يتسع المجال لذكرها. فكل ذلك جعل تلك المعاهد - بوضعها الحالي - ليست هدفاً مباشراً لأصحاب المصانع في المدن الصناعية، ووجود البديل من العمالة الأجنبية الرخيصة زاد الأمر تعقيداً ! وللمساهمة في حل هذه الإشكالية ومحاولة البحث عن إيجاد فرص عمل جديدة ومضمونة لهؤلاء الشباب المهنيين فإن الحاجة أصبحت ملحة لإنشاء مراكز تدريب داخل معاقل المدن الصناعية، وغزو القطاع الخاص في عقر دارهم - إن صح التعبير - عبر إنشاء أكثر من معهد ومركز تدريب داخل كل مدينة صناعية، أو مجمع صناعي في المملكة. والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني لديها عشرات المعاهد والمراكز المهنية والصناعية المتخصصة في هذا المجال المنتشرة في جميع مناطق ومدن المملكة بالإضافة للكليات التقنية، فلو تم نقل هذه المعاهد ومراكز التدريب المهني أو نقل الورش التدريبية إلى داخل المدن الصناعية بحيث يتدرب فيها الطالب سنة كاملة مع العمل على إنشاء معاهد أخرى متخصصة داخل المدن الصناعية فإن ذلك سيكون له بالغ الأثر على زيادة الطلب على مخرجات المؤسسة ويساهم بتخريج شباب على كفاءة عالية، وزيادة رفعة وتطوير التدريب لديها ويحقق التدريب الفعلي لمخرجاتها. ويتم إنشاء هذه المعاهد المهنية الجديدة من قبل المؤسسة العامة وبالمشاركة مع القطاع الخاص وبدعم من صندوق تنمية الموارد البشرية وبإشراف مباشر من وزارة العمل والغرف التجارية. ويُعين المتدرب ويُعطى مكافأة مجزية وهو على مقاعد العمل لدى المصانع، ويكمن إبداع ورقي عمل هذه المعاهد لكونها دائماً متجددة ونشيطة وفي حراك تقني مستمر وبذلك تكون قد حققت إنجازات أخرى لا يمكن لغيرها منافستها بالإضافة لكونها مفتوحة وتلبي حاجة المصانع مباشرة، فيتحقق العمل والتدريب في آن واحد..! وتحدد الحاجة من المهنيين قبل تدريبهم حسب رغبة واحتياج سوق العمل المتمثلة في تلك المصانع. ولساهم هذا الأمر بشكل كبير ليس في سد الفجوة الموجودة بين القطاع الخاص ومعاهد التدريب فحسب بل في: 1- زيادة سعودة الوظائف التقنية والمهنية في القطاع الخاص. 2- كسر حاجز العمل لدى الشباب بتلك المهن الفنية المهنية، لشعور الشاب وهو على مقاعد التدريب أنه داخل هذه المصانع وجزء لا يتجزأ من منظومة العمل التقني. 3- زيادة مهاراته المهنية والتقنية. 4- تدريبه المباشر على مختلف المهن التي تتطلبها تلك المصانع، على عكس متدرب المعاهد التقليدية الذي لم تنضج بعد مهاراته المهنية، حيث أنه لم يأخذ الفرصة الكافية في التدريب. 5- دفع الشباب للعمل المهني وزيادة الإقبال عليه لما سيجدون من وظائف جاهزة بانتظارهم أثناء وبعد تدريبهم، بخلاف المعاهد السابقة البعيدة كل البعد عن تلك المدن، والتي لا تضمن للمتدرب الوظيفة الملائمة بعد التخرج. 6- تجعل من هؤلاء الشباب عملة نادرة يصعب التفريط بها لتميزهم ولمساهمة القطاع الخاص في تدريبهم وكونهم شاركوا وأشرفوا عيهم وعلى ما تقتضيه متطلباتهم من المهن التي تحتاجها المصانع وبذلك نضمن بقاء هؤلاء المتدربين مستقبلاً ليديروا دفة الصناعة في بلادنا. ويفيد كذلك المؤسسات التعليمية والتدريبية في معرفة الحاجة الحقيقية من المهن داخل المصانع وبالتالي إعداد شباب مهنيين مدربين بشكل علمي دقيق، مما سيوجد فرص عمل كبيرة جداً للشباب بعد تدريبهم وبذلك نرفع من كفاءة الخريج التقني ونجعل منه عملة نادرة تتهافت الشركات والمصانع على استقطابه مقارنة بغيره ممن لم يتدرب داخل المدن الصناعية.