نحن نعيش في عالمنا الأرضي وكأننا في صندوق من زجاج يدفئنا ذلك الكانون العظيم والذي يبعد عنا نحوا من 93 مليون ميل وهو الشمس وفي الواقع فالأرض رهن جزء ضئيل من تلك الطاقة يقدر بما لا يزيد على جزء من ألف مليون جزء من الإشعاع الشمسي، ولو زاد ذلك القدر أو قل ولو بنسبة ضئيلة لاختل أود الحياة على ظهر الأرض. . ولهذا كان موضوع التغيرات المناخية التي تأخذ نمطا دوريا محكا خطيرا تناوله لفيف من علماء الأرصاد والجيولوجيا وعلم الحياة. فدراسة تاريخ التغيرات المناخية على مر الحقب ولأزمان نالت نصيبا وافرا من البحث وما تزال لغزا محيرا حاول كثيرون فك سره. تعرضت الكرة الأرضية منذ نشوئها لعصور جليدية مختلفة، تعود أقدمها إلى نهاية ما قبل الكامبري (2250 مليون سنة)، نهاية الكامبري، نهاية العصر الأوردوفيشي، عصر الكربوني (الفحمي) - البرمي والعصر الجليدي الأخير في البليستوسين Pleistocene قبل ما يقارب من (3.2 مليون سنة). غطى الجليد مساحات شاسعة في قارات (آسيا، أوروبا، وأمريكا الشمالية) خلال العصر الجليدي الأخير وبلغت كمية الجليد (70 مليون كم3) وكان مستوي مياه البحار والمحيطات حوالي (125م) تحت المستوى الحالي للمياه وتقدر كمية الجليد الحالي بحوالي (27 مليون كم3)، أي تمت إذابة (43 مليون كم3) من الجليد خلال هذه الفترة وأدت إلى ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات إلى الوضع الحالي، ويقدر العلماء بأن إذابة الجليد المتبقي (27 مليون كم3) ستؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات بحوالي (60-70م) وستغرق نسبة كبيرة من اليابسة. التغيرات المناخية والأرضية العظيمة الناجمة عن العصور الجليدية تم استقراؤها من البقايا الحفرية الحيوانية والنباتية القابعة في الطبقات على مر الحقب والدهور تنبئ عن حالات مختلفة من الدفء والبرودة والرطوبة والجفاف ثم إن من دلائل زحف الجليد تلك الكتل الصخرية الضالة عن أماكنها المعهودة والتي وجدت بعيدة عن مستقرها الأصلي في وسط مختلف عنها تمام الاختلاف كما هي الحال مثلا وسط الجزيرة العربية في جلاميد الصخور النارية التي ترى متناثرة قرب بلدة القوارة وغاف الجوى في وسط طبقات صخور رسوبية شمال القصيم ولا ينبغى أن يغيب عنا ذلك الدليل العظيم وهو الصخور الحريثية وهي صخور تضم بين جنباتها الكثير من أنواع وأحجام الحصيات والحبيبات كما هو ظاهر في مكاشف صخور تكوين صارة شمال القصيم في السعودية والتي جرفها الجليد كما تفعل السيارة الجرافة، وفي نفس المنطقة وقرب بلدة القرعاء اكتشفت آثار لخدوش ذلك الزحف الجليدي، ويعود تاريخ نشوئها إلى العصر الأوردوفيشي وتقابل في تلك الفترة نفسها، توجد ترسبات صحراوية وملحية في التركيب الجيولوجي لقاع بحر الشمال، كانت اليابسة آنذاك تشكل الجزء الأكبر في جنوب خط الاستواء، والمياه تحتل الجزء الأكبر في شمال خط الاستواء. وهذه أمثلة من الدلائل المتزامنة في العالم. وقد كان أمر تلك الظواهر غريبا خفيا حتى فسره بليفير playfair عام 1802 أول بعثة أرسلت لهذا الغرض كانت عام1910 إلى شمال أوروبا حيث جلبت معها عينات من أحافير نباتية من تحت الجليد تختلف عما هو موجود حاليا كما عثرت البعثة على عروق من الفحم تدل على غابات كثيفة في زمن غابر. وقد كان للكشف عن حقيقة العصر الجليدي في حقبة الباليوزوي (القديم) ضجة كبيرة في وقته لأنه هدد بتقويض النظرية السديمية التي ترى أن الأرض كانت غازية وأخذت بالبرودة تتصلب وما تزال، فقد أجمع الكثير من الدلائل على مرور الأرض بأربع فترات جليدية حاقت بالقشرة الأرضية آخرها كان في العصر البليستوسيني الذي سبق مباشرة فترة الدفء الحالية التي نعيش فيها، وفي تلك الفترة كانت كثير من اليابسة المتاخمة للجليد تنعم بتيارات رطبة حولتها إلى مروج وأنهار كما كان في الجزيرة العربية وأكدته الأبحاث الأنثروبولوجية. ونحن الآن في دورة دافئة مر عليها (10 آلاف سنة) واستنادا إلى تعاقب وتكرار تلك الدورات الجليدية والدافئة نتوقع أن تستغرق هذه الدورة الدافئة حوالي (20-30 ألف سنة) وعليه يتعرض شمال آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية مرة أخرى لعصر جليدي بعد (10-20 ألف سنة) ولا توجد بوادر على تعرض العالم من قريب لعصر جليدي، حيث لا يزال مستوي مياه البحار والمحيطات يرتفع نتيجة ذوبان الثلوج. تمكن العلماء من تحديد العوامل الأساسية الطبيعية التي أدت إلى تكوين وتكرار العصور الجليدية، وأن تلك العوامل مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالنظام الطبيعي للمجموعة الشمسية وبالتغيرات التي طرأت وستطرأ على الكرة الأرضية والخارجة عن إرادة البشرية. إن المناخ الصحراوي القاحل الذي يسود السعودية في العصر الحاضر يجعل من العسير على المرء أن يتصور وجود طبقات وأنهار جليدية كبيرة في المنطقة في وقت ما. ومع ذلك، فقد حدث أن شهدت الجزيرة العربية ثلاثة عصور على الأقل كانت خلالهما مغطاة بالكتل الجليدية حينما تسببت تحركات الكتل القارية العالمية في نقل الكتلة القارية التي تقع شبه الجزيرة في نطاقها إلى موقع ما في أقصى نصف الكرة الجنوبي حيث كان المناخ بالغ البرودة مما أدى إلى الحد الذي أتاح تكوين الأنهار الجليدية. ويتوافر لدى العلماء معلومات كافية عن العصر الجليدي الأحدث عهدا باعتبار أنه إحدى حلقات عملية غمر جليدي واسعة النطاق شملت أمريكاالجنوبية وأفريقيا والهند وأستراليا والجزيرة العربية والتي كانت جميعها جزءا من قارة جندوانا الكبرى الغابرة. وقام الجيولوجيون في الخليج بدراسة هذا الغمر الجليدي دراسة متأنية ومستفيضة لأن الرواسب الناشئة عن هذا العصر الجليدي الكبير هي الرواسب المكونة لأهم مكامن الاحتياطي النفطي. وجميع هذه الخصائص والسمات الرسوبية تُثبت لعلماء الجيولوجيا أن أجزاء كبيرة من الجزيرة قد شهدت عدة مراحل تكونت خلالها الطبقات الجليدية ثم عادت وتلاشت. كما تُبين الخصائص والسمات الرسوبية آثار الجرش والطحن الذي أحدثته الأنهار الجليدية التي تركت بصماتها على أسطح الصخور الكبيرة والجلاميد. وقطعت الطبقات الجليدية والأودية الكبرى واخترقت باطن الأرض حتى إنه يمكن رؤية آثارها في المسوحات الزلزالية للطبقات التحتية العميقة. وما زالت تفسيرات أسباب حدوث هذه العصور تتأرجح بين الشك واليقين. وهناك نظريات جيولوجية وأخرى فلكية تحاول فك ذلك اللغز العظيم. ومن أهم ما تطرق له العلماء والباحثون في هذا المجال: 1- تغير شكل الأرض: يعزو مانسون Manson فترات الدفء التي تتخلل فترات الجليد إلى التغير الدوري في شكل الأرض وأن هذا التغير هو القوة المحركة لعمليات التعرية والنشاط الإشعاعي وغيره. وهو يفترض أنه في العصر البرمي - الفحمي وصلت اليابسة الى ما دون درجة التجمد بينما بقيت البحار دافئة وغطتها سحب حجبت الشمس ومنعتها من أن تدفئ الأقاليم الاستوائية وهذا منع إذابة الجليد، وأدلة الأحافير النباتية تؤيد هذا التفسير. 2- ومن النظريات الأولى تغير مستوى سطح الأرض التي اقترح فيها ريت Wright أن أجزاء القشرة التي ترتفع تتجمد بناء على أنه عند علو كل150مترا تنخفض 1فهرنهايت، ولكن العلماء طعنوا في ذلك لأن مناطق ترتفع حاليا إلى نحو2000 متر ولم تتجمد كالبحيرات العظمى وعلى النقيض من ذلك تتجمد مساحات مثل جرينلاند وهي لم تصل إلى هذا الارتفاع. وتؤيد نظرية تزحزح القارات الشهيرة التي وضعها تايلر Taylor عام 1909 هذا المبدأ بطريقة غير مباشرة مع أنها لقيت اعتراضا لاستبعاد تزحزح القارة الهندية مسافة3000 ميل. 4- تغير التيارات في بعض الأقاليم بسبب الانخفاض مما يسمح بتوغل التيارات القطبية المساعدة على نمو الجليد، وكان من مؤيدي هذه الفكرة داوسن Dawson، وقد عورضت أيضا بأنه لم يقم دليل على افتراضه انخفاض مضيق بنما إلى ما تحت البحر في عصر البليستوسين (من العصور الحديثة). 5- تأثير ثاني أكسيد الكربون: نسبته في الهواء 3: 10000 جزء، وهي نسبة ضئيلة الا أنها مهمة جدا، فيزعم أرينيوس Arrhenius أن زيادة قليلة في مقداره تسبب الدفء ولو قلت نسبته لأحدثت عصرا جليديا. ويرى بعض علماء الأرض أن تركيز ثاني أكسيد الكربون يتأثر بعاملين طبيعيين مهمين، أولهما الغطاء النباتي الذي يستهلك كميات مطردة من ثاني أكسيد الكربون كما حدث في العصر الجليدي الفحمي (الكربوني) - البرمي. وثانيهما التعرية، حيث يرون أن عملية التعرية تستهلك كمية أكبر من ثاني أكسيد الكربون، ولعل هذا ما يفسر الانخفاض غير المعهود في درجات حرارة الشتاء في السعودية حيث تتعرض الجزيرة العربية لموجة من التصحر التي ما فتئت تحيق بأرضها سفيا وذريا، وهذه السرعة تعزي إلى عمليات تكتونية (حركية) لا نشعر بها. 6- الغبار البركاني: اقترح همفري Humphrey أن غطاء الغبار البركاني الذي يعلو حتى طبقة الستراوسفير التي ينعدم فيها مظاهر تكاثف بخار الماء يحجب الشعاع الشمسي، ولكن علماء الأرض ارتابوا من قبول هذا الرأي باعتبار أن الثورات البركانية ترفع نسبة ثاني أكسيد الكربون فيكون التحول إلى الدفء أقرب من إلى التجمد. 7- وهناك من العلماء من يرجع ذلك إلى عوامل فلكية. فنظرية كرل Croll تقول بأن مدار الأرض حول الشمس بيضاوي وليس مداريا واستطالته تتغير بشكل دوري تغير من بعد وتعامد أشعة الشمس ومن ثم درجة الحرارة، فكلما اقترب المدار إلى الاستدارة تقاربت أطوال فصلي الشتاء والصيف، وعلى العكس من ذلك إذا استطال المدار لم تتعادل الفصول. في وقتنا الحاضر، في نصف الكرة الشمالي يربو فصل الصيف عن الشتاء بنحو ثمانية أيام وبعكسه في النصف الجنوبي. ويقرر كرل أن الفترات الجليدية هي الفترات التي كان فيها المدار مستطيلا حيث ازداد طول الشتاء قرابة 26 يوما أدت لاستمرار هبوب الرياح التجارية الشمالية الشرقية الضاربة للجنوب بسبب الفارق الكبير في درجات الحرارة، ويرى كرل أن هذه الدورة تنقلب كل 13000 سنة وبحق فان تفسيرات كريل تفسيرات قيمة جدا ومنطقية فهي ربطت زحف الجليد بتغير دورات الرياح والتيارات بالتغيرات الفلكية، إلا أن الإشكال الوارد حولها هو افتراض حدوث عصور جليدية في نصف واحد من الكرة وقد حاول دي هورسي De Horsay حل الإشكال بافتراض أن السبب هو اختلاف ميل محور الأرض من 23.5 ْ إلى 35.5 ْ وعند بلوغ الأرض أقصى ميل يتكون الجليد إلا أن هذه النظرية عجزت عن تفسير بعض الحقائق الجيولوجية. وأظن برأيي أن الدورات الجليدية تحدث بسبب سلسلة من الأسباب التي تطرق لها الباحثون في نظرياتهم لا ينفك بعضها عن الآخر، وأظن أن السلسلة تبدأ من تغير استطالة المدار البيضاوي للأرض أو تغير مقدار ميل محور الأرض، كلا السببين يخلخل القوة المركزية الطاردة ومن ثم زحزحة القارات أو رفعها وهكذا دواليك. في وقتنا الحاضر، وحسب دراسة الدورات الجليدية في الطبقات فإن العصر الجليدي القادم لن يدركه أحد ممن على وجه البسيطة الآن حيث سيكون بإذن الله بعد20 ألف سنة إلا أن من المهم ألا يغيب عن أذهاننا أن كثيرا من البحوث أكدت حدوث تمددات جليدية سريعة خصوصا في عصر البليستوسين والحديث وقد كانت ذروة آخر تمدد جليدي صغير عام1750م، بمعنى أننا في عصر انكماش جليدي ويؤكد ذلك انحسار الجليد في كثير من الأغطية مثل جرينلاند، إلا أنه يبدو أن هذا الانكماش في ذروته ولعل هذه العواصف الجليدية التي بدأت تضرب أجزاء كبيرة أخرى من أوروبا والتيارات الباردة والعواصف الرملية والاستوائية الهائلة التي بدأت تخوض في شواطئ الخليج وتثير رمال الصحراء ما هي إلا نذير تمدد جليدي صغير. كل هذه التغيرات ظهرت من دون تدخل الإنسان بالطبيعة وخارجة عن إرادته وسيطرة البشر عليها وإنما تحكمها قوانين وأنظمة طبيعية دقيقة، إلا أن تطور الصناعة المعاصرة الذي لوث البيئة وزيادة بناء السدود الكبيرة على الأنهار ستؤثر على الأغطية الجليدية كما أنها ستؤدي إلى زيادة النشاط الزلزالي والبركاني، لا سيما في المناطق التي تحتوي على فوالق عميقة وغير مستقرة من الناحية الحركية للقشرة، وما نراه ما هو إلا انعكاس لهذه الحقيقة كما أن التلوث وخصوصا بثاني أكسيد الفحم قد يسرع دفة الدورات الطبيعية مثل دورة انكماش أو تمدد الجليد.