لم يتوقع الحضور الكبير في عرس المملكة السنوي (الجنادرية) أن ينزل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من المنصة الرئيسية إلى الساحة الكبيرة ليصافح عدداً كبيراً من المعاقين الذين شاركوا في فعاليات الافتتاح الجميل. نعم لقد كان ذلك القرار قراراً إنسانياً آنياً من الملك عبدالله، ملك التواصل الإنساني، الملك الإنسان بكل المعايير الإنسانية النبيلة، ناهيك عن كونه لفتة القائد الحنون المفعم بالبوادر الكريمة والمشاركات الإنسانية المتمدنة لأب رحيم وقائد عظيم. إنه ولا عجب الملك الإنسان الذي تحركه مشاعر فياضة مليئة بكل ما يمكن من قول وفعل يعكسان معدنه الأصيل. نعم إنه الملك الإنسان الذي يمضي في مسيرة عطاء وطنية وعربية وإسلامية لا حدود لها ولا نهاية. الملك الإنسان يشارك كعادته في جوهرة الوطن والأمة، في ملتقى الجنادرية الثقافي الأدبي والتراثي المعاصر... نعم إنها جوهرة وطنية لا تقدر بثمن، رصع بها جبين الأمة منذ ثلاثة وعشرين عاماً لتغدو موطن الثقافة والعلم والأدب والتراث والفنون الشعبية، ولتصبح ملتقى ناجحاً سنوياً كبيراً لنخب عقول الأمة ومفكريها، تتواصل بأدوات ووسائل فاعلة، وتلتقي في رحابه ثلل من العلماء والأدباء والمفكرين والمهنيين والفنانين، يتحاورون في ربوع أجواء دافئة من عبق الماضي المشرف المهجن بأصول ثابتة من الحاضر النبيل، ينعكس على واقع كل منهما جوقات من الأنغام والرقصات وفنون التراث الشعبي الأصيل الذي يصهر الإنسان مع الإنسان وإن بعد المكان أو اختلف، وإن طال الزمن أو اختلف. لذا فإن الحوارات العلمية والأدبية والثقافية التي تعتمل في رحاب الجنادرية ليست وحدها على قائمة الحركة الإنسانية لملتقى الجنادرية، فإلى جانبها يلتقي الضيوف من خارج المملكة من عدد كبير من دول العالم العربي والإسلامي وغير الإسلامي مع ثلة من الحضور الوطني؛ لينشغل الجميع في حوارات هادئة وهادفة لا تكل ولا تمل، تعمل بجد واجتهاد في البحث والتقصي العميقين في أحوال وأوضاع العالم العربي والإسلامي. الجنادرية ملتقى ثقافي حضاري إنساني تراثي هادف وأصيل، يتيح المجال واسعاً أمام تناقح العقول وتحاور الأفكار وتزاوج التصورات الإنسانية وتبادلها لكل ما يمكن أن يفيد للمجتمعات الإنسانية.. كيف لا وكل مَن حضر وشارك وساهم في الجنادرية ينضوي في شريحة الفكر الإنساني المستنير، الفكر المتفتح والمنفتح على الآخر، الفكر الإنساني المتقبل للاختلاف والتباين مهما كان ذلك الاختلاف جذرياً أو التباين جوهرياً. في الجنادرية يطرح العلماء والمفكرون رؤاهم حول الخطاب الدعوي المعاصر، ديدن الأمر وفيصله يكمن في القدرة على التأثير والبراعة في فنون الإقناع؛ لأنهما خير ما يمهد الأجواء لبناء فكر إنساني عاقل مستقيم وسوي. في الجنادرية كُرم الراحل المغفور له بإذن الله الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري من الجميع ممن أحبوه وعاصروه وشهدوا مسيرته الحافلة بالإنجازات الوطنية والإبداعات الثقافية، وأيضاً ساهم في تكريمه كل من سمع عنه أو تواصل معه، أو تقارب مع فكره في بوتقة العلم والأدب والتراث. لقد كان ذلك التكريم ملحمة إنسانية رائعة تخلد أفعال الرجال حقاً ممن ساهموا في بناء الوطن ورفع رؤوس الأمة العربية والإسلامية. اللافت للنظر أن الجنادرية غدت وسيلة لإرسال رسائل سياسية مهمة وعاجلة وهادفة إلى قادة وشعوب الأمتين العربية والإسلامية. ففي جنادرية 23 تناقش العلاقات السعودية التركية والقضية الفلسطينية والإعلام السعودي في زمن العولمة. ومن الجنادرية خرجت صرخات إنسانية تطالب كل من يتنازع في فلسطين ولبنان والسودان بأن يضعوا جانباً الهراوات ويتسلحوا بمنطق الحوار ودبلوماسية السلم والسلام والوئام. في ربوع الجنادرية لا مجال للسماح لرسائل التطرف والتشدد والغلو أيا كان مصدرها، ولا مكانة لمن يعتنق منطق العنف أو من يتوشح ببيئة الإرهاب والدمار. فمن محال المحال أن يتقبل كل من يشارك في الجنادرية فكر من يعتنق المنطق الأحادي أو الرؤية المتحجرة أو الفكر الرجعي الذي لا يقبل النقاش والحوار والجدل. السبب أن الجنادرية ليست وحسب تواصلاً مستمراً مع التاريخ وجسراً يربط الماضي الإنساني العريق بالحاضر وصولاً إلى مستقبل أفضل أكثر أمناً وسلاماً واستقراراً، وإنما لأن الجنادرية رسالة سلام للعالم كله ووسيلة وطنية لتحقيق غايات وطنية عربية إسلامية وعالمية إنسانية نبيلة هدفها تحقيق الأمن والسلام والاستقرار العالمي من خلال المساهمة في صهر العقول والأفكار الإنسانية المعتدلة والمستقرة.