والآن دعوني أبحث معكم عن مصادر التشكيك في سلوكية الموظف العام، فأقول: أولاً: هناك دائماً الاحتمال أن يرتكب الموظف نفسه خطأ، قصداً كان أو اجتهاداً، يتحمل بسببه وزر الشك من قبل من يتعامل معه من الناس، هنا، يجب مساءلة الموظف بقدر ما أحدثه من خطأ، مع مراعاة عنصر النيّة، وهذا ما تقوم عليه أساليب التقنين الحالية، التي سنّتْها الدولة لضبط وتوجيه سلوك الموظف. *** * ومع ذلك كله، أكرّر القول بأن واجبنا، مواطنين ومسؤولين، أن نخصص السيئة لا أن نعمّمها، فنظلم من لا يستأهل الظلم، ونسيء إلى أبرياء يعملون في صمت، ونحن عنهم غافلون أو متغافلون، فلا الحسنات يلغين السيئات، ولا السيئات يذهبن الحسنات، وكل يحصد من عطائه ما يؤهله له ذلك العطاء، إن خيراً، فخير، وإن شراً فشر! *** ثانياً: للصحافة المحلية دورٌ لا ينكر في إثراء حصاد الانطباعات السلبية عن الموظف العام، مكتوبة أو مرسومة، حتى ليخال لكثير من الناس - بدءاً بالمسؤول، مروراً برجل الشارع، وانتهاء بربة المنزل - أن الموظف العام معني بجرعات الشاي ومخرجات الصحف، فإذا فرغ من هذا أو ذاك، خلد إلى النوم، وترك الواجب وراء ظهره منسياً، هنا، مرة أخرى: تظهر عقدة تغليب الجزء على الكلّ، وأخذ البريء بجريرة المسيء، عمداً أو جهلاً! * وهناك مصدر آخر لترويج سوء الظن بالموظف العام، يمارس أصحابه نزعة الحكم العشوائي على الموظف انطلاقاً من تجربة ما، في زمن ما، فمثلاً: * أ- قد يتقدم أحدهم إلى جهة حكومية لقضاء شأن من شؤونه، ويصر على سرعة إنجاز هذا الشأن، معلِّلاً ذلك بشتى الأعذار، وكأن هذه الجهة لا همَّ لها إلا شأنه وحده، دون سائر الناس، ثم لا يكتفي بهذا، بل يلتمس الشفاعة مباشرة أو من خلال وسيط لدى رئيس هذه الجهة، طمعاً في إنجاز أمره، فإذا قيل له إن قضاء أمرك يتطلب بعض الوقت، غضب، وأخذ يكيل التهم بسخاء، وينعت الجميع بالتقصير والتجمد البيروقراطي، فإذا خلا إلى أهله وصحبه، أفاض في تصوير الموقف، وأجزل فيه القول! *** * ب- وهناك نمط آخر يضيق ذرعاً بكلمة (إجراءات) أو (قواعد)، ويعتبرها مرادفة لكلمة (الروتين) في مضمونها البغيض، وهو ينسى أو يتناسى أن مصالح الناس لا يمكن أن تعالج بوحي من هوى، وما تشتهيه الأنفس، بل لا بد من ضوابط معيّنة ضماناً للعدل، وردعاً للحيف، ولذلك، ينصبُّ نفور هذا النمط من المواطنين على الموظف العام، وتمارس في حقه، عُقد (الإسقاط) كما يعرّفها فقهاء النفس. *** * وحين يحاول الموظف عبثاً إيضاح الأمر لهذا المراجع أو ذاك، وأن هناك قواعد سنّت أصلاً لحماية مبدأ الأسوة بين الناس، وأن الموظف لا حول له ولا شأن في نقض هذه القواعد إرضاء لمصلحة مخلوق، يردّ صاحب الشأن قائلاً إن أمره يختلف عن سائر الناس، ومن ثم لا شأن له بهذه القواعد، فإذا غُلب على أمره، طلب استثناءه منها بحجة أنها تكيّف أوضاع غيره، أما هو فله شأن ثانٍ! * وبعد.. فإنّ ما عنيتُه بهذه الكلمات مجتمعة، هو محاولة الوصول إلى المؤشِّرات التالية: أولاً: سيظلُّ معنا الموظف الذي يسيء إلى غيره ونفسه، بقصد أو بغير قصد، شئنا ذلك أم رغبنا عنه، والسبب هو أن الموظف، كما أسلفنا جبلة بشرية يمتزج في أحشائها الخير والشر! *** ثانياً: وهناك أيضاً المواطن الذي يكيّف حكمه على الموظف العام تبعاً لما تمليه مواقف عابرة، فيصنع من الخَرْدلة جبلاً، وتسهم بعض الصحف في إثراء هذا الشعور بأكثر من أسلوب. *** ثالثاً: إن مسألة الرضى عن الموظف أو السخط عليه، نسبية المنشأ والمضمون - في معظم الأحوال - لأن أداءه يأتي امتداداً لمعادلة سلوكه العام، وبالتالي، فإنه كبشر معرض للخطأ، داخل إطار الوظيفة وخارجه. *** رابعاً: إن الدولة بكل قنواتها، تشريعية وتنفيذية ورقابية، تحرص ما وسعها الحرص على احتواء شطط الموظف العام، ورفع كفاية أدائه، كي يكون سلوكه مطابقاً لتوقعات العطاء المطلوب منه، قدر الإمكان. *** خامساً: إن على المستفيد بخدمة الجهاز الحكومي أن يكون عوناً للإدارة في كشف الخطأ لا عبئاً عليها، إما تستّراً على ذلك الخطأ أو إغراءً لفاعله، والمتستر على الخطأ والمحرّض عليه في هذا الموقف كفاعله إثماً وأثراً.