رحم الله والدتي صالحة بنت حسين، وجميع موتى المسلمين. كثيرا ما سمعتها -غفر المولى لها- تردد مثلا شعبيا ريفيا من بيئتها القروية البسيطة. كانت تقول عندما يكون الظرف مناسبا، وعندما يحتاج الموقف: «غضب الجني ولا رضاه». في وقت مبكر من عمري لم أفهم جيدا عمق هذه العبارة، وكنت أغفل عن كل الكلمات، وأقف دائما عند لفظة «الجني» وأبحر في عمل شاق حيث أثقل عقلي الغض، وتفكيري البسيط برؤى وأخيلة أحاول من خلالها تصورذلك المخلوق الخرافي الذي لم يسبق لي أن رأيته، وفشلت في استحضاره بقواي الذاتية وفي خيالي الخاص. وتبدلت الأحوال، وانطوت السنين، وبقيت أتذكر تلك الكلمات بوعي، ولازمتني معها تلك الهواجس، تعود وتطل برأسها من جديد في كل مرة اسمع لفظة «جني». الأيام كشفت لي وحدها أن جوهر تلك العبارة يعني، وبشكل محدد ودقيق، أن الجني ليس ذلك المخلوق الذي تعجز الذاكرة عن تخيله، إنما هو من البشر وموجود بيننا، وهو من يتسبب في أذى الناس، وازعاجهم، ويؤثر سلبا على حياتهم ومستقبل أيامهم بما يملك من أدوات وضعتها الأقدار بين يديه. فلم يتمكن من تسخيرها في المعروف والصفح والخير والجمال. وأضيف في توصيف معنى الجني، ومن في منزلته، أنه مخلوق جدير بأن يتلقى منا كأفراد ومجتمع لو كانت الظروف عادلة للجميع دائما أقول يستحق أن يوضع في المكان الذي يستحقه من القدر والقيمة والمكانة. بفهمي هذا ارتحت ولم أعد أخاف من تلك اللفظة، ولم تعد تزعجني لا ذهنيا ولا معرفيا. لا أعرف هل لأنه إذا عرف المعنى ارتاحت الذهنية والنفسية أو لأن الأمور وتصورها وتبعات التعاطي معها تتغير مع الزمن والعمر والخبرة والتجربة. الدعوة النبوية الكريمة تقول للإنسان المسلم المعتدل «لا تغضب» وهذا الأمر له تبعات نفسية وذهنية وصحية لا تخفى على المختصين، ومن المؤكد أنها معروفة لكثير من الناس، كجزء من ثقافتهم العامة. وتدلنا قواعد السلوك المستقيم والسليم على أن اغضاب الناس ليس غاية لأحد، ما لم يكونوا بمرتبة الجني والمؤذي. وفي الحياة العادية يتبادل الناس عبارات تدعو لنبذ الكدر، ويقولون لبعضهم بتحبب: «الله لا يجيب الزعل». أو «لا تزعل نفسك يا فلان»، أو «ما تستاهل الدنيا شيء من زعل». وغالبا ما نصف من لا يتعمد اغضاب الآخرين بأنه أمير وأن أخلاقه عالية، وأنه ينحدر من بيت طيب وبيئة مباركة. حتى في الغناء الشعبي يغني الناس بذاكرتهم الشعبية الغنية والثرية والمليئة بالرمزية فيقولون على سبيل المثال: ازعل عليك. بمعنى سأغضب منك إذا أتيت هذا الأمر أو ذاك. وفي الغناء الشعبي القريب من هموم الناس وحياتهم وأوجاعهم يُقال: تدري ليش أزعل عليك. بمعنى أن هناك حوارا هناك أخذ وعطاء ومواجهة ومكاشفة وتعاطي حتى مع وجود حالات زعل أو غضب بين الناس، وهناك بيان لأسبابه إن حدث -لا سمح الله-. ومن أغرب القصص التي سمعتها من أحد أصدقائي أن مسئولا في الشركة التي يعمل فيها، غضب منه لأمر ما، ووضعه في منطقة رمادية في الشركة، بحيث أصبح زعل ذلك المسئول مصدر ازعاج لزميلي؛ من جراء تبني الآخرين في أقسام وإدارات الشركة لسلوك مديرهم! وتطور الموضوع إلى درجة أن الرجل- صديقي- حُرم بقصد أو بغير قصد عددا من الفرص والمزايا الطبيعية في عمله، والتي يحصل عليها الجميع بدون منة من مدير أو من غفير، كل هذا كما أخبرني يحدث بدون قرارات مكتوبة وموجهة، وكأن علم الإدارة لم يخترع بعد! سلسلة متراكمة من الغضب والأخطاء الجنية تحدث بالتبادل الشفوي بين المدير الكبير في الموقع العملي، وليس في شيء آخر، وبين مرؤوسيه من «خدَم» الوظيفة و«خدِّام» المسئول. هكذا رسم لي الرجل الخطوط العريضة لقضية زعل اختلط فيها الإداري بالشخصي بصورة غريبة حقا. ولما استفسرت منه مستغربا!! وما الحل قال: صديقي الحل أن يرضى المدير. فقلت وأنا أكثر استغرابا وإذا لم يرض؟ قال لي: لا أعرف والله. قلت له وأنا أتذكر مثل والدتي -رحمها الله-: عمره ما رضي، وغضب الجني ولا رضاه. وأكملت قبل أن أختم حديثي معه: لن يضرك بشيء، أقصى ما يستطيع عمله بهذه الروح السيئة، أن ينفذ مشيئة المولى لا أكثر. قال صديقي بهدوء: ونعم بالله. فرددت ما قال، ولم أزد على ذلك.