ظهر الفجر بملامح الصبح.. معلناً التجرد من قيود الظلام، استيقظ الناس فرحين مستبشرين فبدأوا يومهم بصلاة الفجر ويحين وقت الشروق وإذا بالسماء ملبدة بالغيوم والأرض باردة قد وقفت على أعصابها تنتظر شروق الشمس لتنعم بالدفء في أحضان الطبيعة الخلابة وإذ بتلك الجبال تقف بكبريائها وشموخها بل بروعتها وجمالها كعروسة توشحت بالملابس الخضراء ولبست حلة بيضاء فزادها جمالاً وتألقاً، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أقبلت خيوط الشمس من بين السحب حاملة الدفء والسلام، حينها كنت قد قطعت مسافة كبيرة نحو ذلك الجبل الذي طالما حلمت أن أصعده فإذا بي أعيش ذلك الحلم حقيقة وإذ بذلك الوادي الجميل المكسي بالخضرة والجمال المحفوف بالروعة والخيال، تجولت بنظري هنا وهناك فإذا بي أقف عند ذلك البيت المهجور المبني من الحجارة والطين وسقفه من جذوع الأشجار وقد وقع على عروشه والأشجار ملتفة من حوله الأغصان تصافح بقايا جدرانه المتشققة والحزينة مهونة عليها مصيبتها.. والأشجار الطويلة قد تداخلت بين جنباته ونوافذه وبعضها اختبأت من جور الزمان وظلم الإنسان لهذه الأرض وبقيت هناك على رأس ذلك الجبل، انظر إلى ذلك البيت القديم والمشاعر في دهشة وتأمل، قررت أن أقطع المسافة التي بين الجبل وحافة الوادي، وكلما اقتربت منه زادت دقات قلبي خفقاناً، وما أن وصلت حتى أخذت أوزع نظراتي بين تلك الغابات. كان شوقي لأبعد المدى بأن أرى ما بداخل ذلك البيت المهجور فإذا به مليء بالحشائش الصغيرة والحجارة الواقعة من السطح والجدران وإذا بنظري يقع على موقدة النار ومن حولها بقايا أثر الرماد فتبادر في ذهني سؤال غريب وعجيب طرحته على نفسي لعلي أجد إجابة مقنعة، أين ذهب أهل هذا المنزل الذي أهلكته السنين وتآمرت عليه الأيام وكيف كانت حياتهم؟ سألت نفسي كيف كانوا يأكلون ويشربون وينامون وكيف كانوا يلبسون.. ويسمرون؟ جلست على حجرة متوسطة الكبر بجانب ذلك المنزل المندثر وشجرة السدر الكبيرة من فوقي تفيئني والهواء ببرودة ولطافته يداعبني. جلست أوزع نظراتي بين جنبات ذلك الوادي الجميل والأرض والأشجار والأحجار والكائنات من حولي خاشعة كل قد علم صلاته وتسبيحه. أسأل نفسي بين الحينة والأخرى وأمنيها بالإجابة فيما بعد.. وبينما أنا على ذلك الحال خرج عليَّ عجوز مكتظ اللحية ليس عليه سوى لحاف قصير، فلما أبصرته أصابني الهلع والخوف فدعوت الله الستر والنجاة من هذا العفريت وقرأت المعوذات وآية الكرسي.. حاولت ألا يراني ولكنه فعل فأقبل يطوي الأرض طياً وإذا به يقترب مني فيتملكني اليأس بأن ذلك اليوم وتلك الساعة هي آخر لحظة لي في هذه الحياة، لم يبق بينه وبيني سوى خطوات بسيطة فزلزلني الخوف زلزالاً وخرجت أنفاسي متتالية وقوية وقلبي يضرب برأسه في قضبان القفص الصدري يريد أن يجرح ويناجي ربه بالرحمة من هذا الإنس أو الجان، فلما اقترب مني حياني بتحية الإسلام فرددت السلام وأنا على حافة الحياة، جلس بجانبي يسألني عن حاجتي ومن أين أتيت فأخبرته بأمري فرحب بي ترحيب الأرض الجدباء المتعطشة لمطر السماء الهانئة، وبعد إلحاح طويل أخذني إلى منزله لعلي أجد جواباً لأسئلتي، فإذا به غرفة صغيرة دائرية الشكل من الحجارة والطين، بداخله حصير من جلد الحيوان يجلس عليه وينام وبجانبه قربة صغيرة مليئة بالماء. أبدى اعتذاره عن ذلك الاستقبال غير اللائق -كما يقول- فعذرته مبدياً سعادتي، طلبته أن يخبرني عن حياته ولماذا هو في هذه الأدغال لوحده؟ فتبسم ضاحكاً مخفياً الهم والحزن وراء ظهره، قال إني أعيش في هذا المكان منذ أن ولدت من قبل سبعين عاماً، وأنا سعيد بهذه العيشة. سألته بعجب واستعجال: أليس لك أهل وأولاد؟ قال: بلى ولكنهم تركوني وذهبوا ليعيشون في الخارج، قلت: وأنت يا عم لماذا لم تذهب معهم؟ قال: وهل يترك الطفل ثدي أمه يا ولدي حينما يريد أن يشبع جوعه أو حضنها الآمن حين يريد أن يعيش بسلام. تعجبت من هذه الإجابة الغامضة والصعبة، فقلت والابتسامة واقفة على وجنتي: وهل أنت يا عم طفل صغير وهل أمك على قيد الحياة حتى الآن؟ قال: إني لا أقصد أمي التي ولدتني ولا ثديها الذي أرضعتني به أو حضنها الذي أدفأتني فيه، إنما أمي يا بني هي هذه الأرض الطيبة التي هي امتداد للوطن والتي عشت على خيراتها وترعرعت في أحضانها وشكوت همومي وآلامي لجنباتها، هذه الأرض التي حملتني بضعاً وسبعين خريفاً غلاها يا ولدي كغلى أمي التي حملتني تسعة أشهر فماتت أمي الأولى وبقيت أمي الثانية ترعاني من نوائب الدهر وظروف الزمن هذه الأيام يا ولدي هي هذه الأرض ولن تموت إن شاء الله حتى يأتي أمر ربك. بينما نحن في حديثنا كانت قهوة العمل العجوز قد جهزت فأخذها من على جمر الحطب وقدم لي فنجالاً لم أذق للقهوة طعماً محسوساً كطعم تلك القهوة. سألني عن الأسئلة التي كانت تدور بخلدي قبل أن يجمعنا ذلك اللقاء.. فأخبرته بها فأردف قليلاً ومال بظهره متكئاً على الجدار وأخذ ينظر في سقف الغرفة وكأني بأسئلتي اليتيمة عدت به إلى أيام الطفولة والصبا، قال وقد ملكه الحزن على الماضي الجميل أن أبناء هذه الغابة تركوها وقد كانت حياتهم كما ترى حياتي الآن بيوتهم كبيتي هذا وعيشهم فكانوا يأكلون الخبز اليابس ومعه الماء وفي بعض الأحيان لا يجدونه، أما نومهم فكان على حصير كالذي تحتك، أما حياتهم اليومية فكانت مضطربة يخيم عليها جو من الفوضى والخوف والضياع حتى أشرق نور الحق والعدل والضياء الذي حمل رايته مؤسس مملكة الخير والسلام والإنسانية الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فكانت الخطوات تسبق النظرات وستظل رحمة الله بأهل هذه البلاد ميسرة بوجود أسرة آل سعود الذين أوصلوا كل متطلبات الحياة إلى كل ذات وبيت وجعلوا من ابن هذا الوطن إنساناً فعالاً في المجتمع الدولي والعالمي يسجل حضوره في كل المناسبات ويفرض وجوده في جميع المجالات.. لقد كان الجو جميلاً ورائعاً مع ذلك العجوز الذي وجدت في نفسه وذاته معنى الوطنية الصادقة وروح الإنسانية المخلصة التي انبثقت جذور صدقها من أعماق قلبه رغم أميته إلا أنه أثبت فعلاً أن تراب الوطن لا يقدر بثمن وأن الأرواح رخيصة وهي تقدم فداء للدين ثم المليك والوطن. إن ما نشهده اليوم من تطور في جميع أنحاء الحياة لهو خير شاهد على أننا ننعم في وطننا بخيرات لا يمكن أن تعيشها الأوطان من حولنا. واقترب المساء فأردت العودة من حيث أتيت فودعت ذلك الرجل العجوز في عمره الشباب في وطنيته، ودعته وأجنحة الفرح تحلق بي في فضاءات ذلك الوادي ثم وصلت إلى قمة الجبل فلوحت بالوداع على أمل اللقاء.