كأن العالم أصغر مما شاهدت، كأنه علبة ألوان قوس قزح، بعد زمنٍ طويل بلمسة تقرع الباب كأنها فراشة حطت على زهرة بأجنحتها الشفيفة، فتاة ممسكة بيدها أوراق بيض كتبت بخط اليد. كانت قصيدة شعر طلبت مني على استحياء شديد أن انشرها. كنت حينذاك أعمل في صحيفة المدينة. وريقة كتبت بخط ٍ في غاية العذوبة والجمال أمسكتها بين كفي المرتعشتين وأبحرت بين كلماتها المجنحة.. ألف دمعة.. وألف أنين غلف حروفها.! القصيدة مهداة من فتاة إلى والدتها هكذا قلت في نفسي ومضيت احتضن الحروف تحت ريح الألم... الحكاية بدأت بقصيدة أحضرتها عبر الباب تعرفت عليها فهي تقطن في الطابق العلوي. شاهيناز فتاة غضة تحب الحياة شأن كل الفتيات، نهمة للعلم تعطيه جل اهتمامها، لكنها تخفق في إبراز مشاعرها أمام الغير، تلقي بالكلام على عواهنه. هي مرات قليلة التي جمعتنا عند مدخل المبنى كانت تسألني بكلمات مقتضبة ثم تمضي. وأحياناً تعلم أنني طريحة السرير فتسأل عني عبر الهاتف وتعرض عليّ المساعدة كانت كلماتها تنتشلني من مرضي تحرض جناحي على الطيران. يمضي الزمن ويباغتني انتصارها على ذاتها؛ فتصعد سلالم العلم بذكاء وقدرة نادرين. كثيراً ما أخجلتني شمعة روحها وهي تطلب مني ألا أطيل سفري في الخارج. لم أفهم فحوى حديثها المقتضب إلا الآن حين رأيتها تقرع بابي ممسكة بيدها كوب قهوتها فإذا بي أمام واحة من المعاني لونت وجه الخريف الشاحب بأزهار البنفسج، حينَ بادرتها التحية، ردت اشتقت إليك وغابت.. كلماتها جنحت روحي، انهمر كنجومٍ براقة تناثرت كرذاذ ٍمضيء دافئ وأضاءت قلبي بألف شمعة. كلمة واحدة اختصرت آلاف العبارات. في هذا الصباح الرمادي والشمس تشق طريقها بين غيومه بصعوبةٍ، والمدينة تلملم وجهها بنورها الخافت؛ علمت أنها أوشكت على السفر إلى مدينة الضباب لتتسلح باللغة الإنجليزية تمهيداً للدراسة العليا، منذ سمعت الخبر وقلبي يطرق كمولٍ في أرض جرداء، وانتابتني مشاعر مختلطة لا تكف عن الهذيان. لم تستطع مشاعري أن تغفو، وأنا أحاول جاهدة تجاهل الصور القليلة التي اختزنتها ذاكرتي كانت تحصرني في بوتقة حضورها رغماً عني. شاهيناز غزالة تسكن في غابة من الحروف الصامتة وقلب لا يحيد عن خط البياض ذاك هو قلب شاهيناز تحديداً، الذي ترك فراغاً كبيراً لي ولأسرتها وأقاربها. أدعو المولى أن يكلل خطواتها بالنجح وأن يحفظها من مكاره الدنيا حتى تعود لأرض الوطن فهي فخر لكل فتاة ثابرت فنالت ما أرادت. مرفأ: ثمة أشياء لا نعتادها (الفراق).